للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفاضل الناس عند الله إنما هو بالتقوى]

عرفنا أن تفاضل الناس بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] ، لا بالحسب ولا بالنسب ولا بأصل الآباء والأجداد، ولا بالرتب ولا بالأموال ولا بالمناصب، إنما تفاضلهم عند الله تعالى بالأعمال الصالحة، فالله تعالى يقول في هذه الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] بعدما ذكر القبائل والشعوب في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:١٣] ، يعني: كل بني آدم تفرعوا من ذكر وأنثى؛ لكن جعلهم الله شعوباً وقبائل لمصلحة وهي: لا لتفاخروا، بل ليُعرَف أن هذا فلان من القبيلة الفلانية، وبعدما ذكر أن الحكمة في ذلك هي التعارف، ذكر أن هذا الفخر لا يجوز، وإنما الفخر بالتقوى فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] .

وقد وردت أدلة في النهي عن الافتخار بالأسلاف، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب) .

وفي حديث آخر: (إن الله أذهب عنكم عُبَّية الجاهلية وفخرها بالآباء) ، فجعل الفخر بالتقوى، وجعل الإنسان إنما يكرم وإنما يرتفع منصبه ومنزلته عند الله تعالى إذا حقق التقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فإذاً: الفخر إنما هو بطاعة الله وبالتقرب إليه، وتمايُز الناس وتفاوتهم إنما يكون بحسب الإيمان، وبحسب آثار الإيمان، فأفضلهم أكملهم إيماناً وأكملهم أعمالاً وأكملهم وأحسنهم أقوالاً وأحوالاً، وأبعدهم عن الآثام، وأبعدهم عن أنواع الإجرام، هذا هو أكملهم عند الله وأكرمهم، وأرقاهم منزلة، فأما منصب وجاه ومال وحسب ونسب ومسكن وولد؛ فكل ذلك لا يُغني عن صاحبه، كما ذكر الله عن الكافر في قوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨-٢٩] ، أي: هلكت عني سلاطيني وحسبي ونسبي وقبيلتي وأسرتي وأنصاري وأعواني، وتخلوا عني.

فإذاً: ما على الإنسان إلا أن يحقق الإيمان ويحقق التقوى؛ ليصبح بذلك أفخر الناس وأشرفهم، والفخر والشرف إنما يكون بما عند الله، ولا يضره لو كان ضعيفاً مهيناً لا يُؤبَه له، ولا يُنظَر إليه، ويُدفَع عن الأبواب، ولا يُقدَّم في المجالس، ولا يُحترَم ولا يُكرَم؛ فإنه إذا كان عند الله عزيزاً، كريماً، شريفاً، فلا يضره كونه عند الناس وضيعاً.

تكلم الشارح كما تقدم على ما اشتهر في كتب الأدب، وهي مسألة التفضيل بين الصابر والشاكر، حين يكون الصبر مع الفقر، والشكر مع الغنى، وقد تكلم فيهما العلماء، فتكلم فيهما ابن القيم رحمه الله وأطال في ذلك في كتابه (هبة الصابرين وذخيرة الشاكرين) ، وهو كتاب عظيم ومفيد نوصي باقتنائه وبقراءته، تكلم فيه على الصبر، وعلى أنواع الصبر، وعلى الشكر، وعلى فوائده، وأطال في ذلك، وأطال أيضاً على هذه المسألة، وهي: مسألة التفاضل بين الغني الشاكر والفقير الصابر.

الفقير هو: الذي زُوِيَت عنه الدنيا، ولا يؤتى منها إلا قدر ما يسد رمقه، وأما الغني: فهو الذي فُتحت عليه الدنيا، وأوتي من أنواع زهرتها.

فالفقير صبر واحتسب وزهد وقنع بما آتاه ربه.

والغني شكر، فأعطى حقوق هذا المال وصرفه في وجوه البر، وأنفقه في الخيرات وفي المسرات، وأعطى المستضعفين، وصرفه في الجهاد في سبيل الله، ونفع به المحتاجين ونحوهم.

فأيهما أفضل: ذلك الفقير الذي اقتصر على نفسه وصبر واحتسب، أو هذا الغني الذي أنفق في وجوه الخير؟ اختلف العلماء في ذلك.