للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموحدون لا يخلدون في النار وإن دخلوها]

من عقيدة أهل السنة: أنهم لا يخلدون العصاة في النار، وإن دخلوها فإنهم يخرجون منهم، والمراد الذين ماتوا وهم مصرون على بعض الذنوب الكبيرة التي ورد فيها وعيد، وأما الخوارج فتمسكوا بأحاديث وبنصوص فيها وعيد شديد لمن عمل ذنباً أو كبيرة، فأخرجوهم من دائرة الإسلام وأدخلوهم في الكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم بمجرد ارتكاب الذنب.

أما المعتزلة فأخرجوهم من الإسلام ولم يدخلوهم في الكفر، وجعلوهم في منزلة بين الكفر والإيمان، وحكموا بخلودهم في النار بموجب النصوص التي فيها وعيد.

وأهل السنة قالوا: إنهم تحت مشيئة الله إن شاء غفر لهم ذنوبهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخلهم النار تطهيراً لهم لما اقترفوه من الذنوب، ما يمحصون ويهذبون وينقون يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فمنهم من يكون بقاؤه في النار ألوفاً من السنين، ومنهم من لا يبقى فيها إلا قليلاً، على قدر ذنوبهم أو بدعهم، ومآلهم إلى الجنة، ولو بعد مدة؛ وذلك لأنهم من أهل الإيمان، ومن أهل التوحيد، ومن أهل التصديق، وإن كان معهم شيء من الذنوب التي اقترفوها.

فكيف نحمل النصوص التي فيها الوعيد بعدم دخول الجنة لبعض العصاة؟ وردت أحاديث كثيرة وآيات ظاهرة الدلالة في أن العصاة في النار، سواء يخلدون فيها أو يدخلونها، أو يحرمون الجنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) ، ومثل قوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، ومثل قوله: (إن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه) ، ومثل الآيات قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:٢٣] ، وكقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:١٦] ، ومثل قوله في آكل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٧٥] يعني: من عاد إلى التعامل بالربا، فتوعدهم بأنهم من أصحاب النار بمجرد أكلهم الربا، والربا إنما هو من الكبائر لا من الكفر والشرك، وكذلك الوعيد في قتل النفس، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:٩٣] .

تمسك بهذه النصوص الوعيدية من القدرية والخوارج، وجعلوها نصاً في أن العاصي المصر على المعصية لا يخرج من النار، بل يدخل فيها ويخلد، وتمسكوا بالآيات التي فيها عدم الخروج من النار كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:٣٧] ، وكقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:٢٢] ، وكقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:١٦٧] هذا ما تمسك به الوعيدية.

وأهل السنة يقولون: هذه النصوص فيها وعيد شديد، فنجريها على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، لتكون زاجرة عن المعاصي، وذلك لأن التهاون بالمعاصي يعتبر ذنباً أكبر من فعلها، فلأجل ذلك لا نتأولها حتى تكون زاجرة، بل نؤيدها ونؤكدها ونستدل بالأخبار الأخرى، وبالأحاديث الكثيرة التي فيها الوعيد الشديد على الذنوب، والتي فيها إهلاك الله تعالى لمن أذنب أي ذنب، أو لمن ارتكب أي منكر، ولو تتبعنا ذلك لوجدنا فيه أحاديث كثيرة تدل عليه، ومن أراد أن يتوسع فيها فليقرأ الأحاديث التي ذكرها ابن القيم في كتابه الذي سماه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، حيث أورد في أوله أحاديث كثيرة وأدلة كثيرة تدل على أن الله تعالى يعاقب على الذنوب، ولو لم تصل إلى الكفر، وأنه بسبب الذنوب أهلك أقواماً.

فاستدل مثلاً بما روي في بعض الآثار: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: (أني مهلك من قومك ستين ألفاً من شرارهم وأربعين ألفاً من خيارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يجالسوهم ويؤانسوهم) ، فعاقب الأخيار في الدنيا بالهلاك، ولم يكن لهم ذنب إلا مجالسة الأشرار ومؤاكلتهم، ولم يذكر ذنب الأشرار هل وصل إلى الكفر أو أنه من المعاصي، وإذا كان من المعاصي فهو دليل واضح على أن العصاة متوعدون بالهلاك في الدنيا، وبالعذاب أو الوعيد في الآخرة.

وروي أن ربنا سبحانه أمر جبريل أن يخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب! فيهم عبدك فلان، لم يعصك طرفة عين، فقال: به فابدأ وأسمعني صوته، فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، فأمر بإهلاكه، مع أنه لم يذكر له ذنباً إلا أنه لا يغار لله، ولا يتمعر وجهه في ذات الله، وذلك دليل على أن هذا ذنب.

فإقرار العصاة، وعدم الغضب لذات الله، ذنب، ولو لم يعمل الذنب، ولكنه لما لم يغضب لغضب الله استحق أن ينزل عليه من الوعيد والعذاب ما نزل على المعذبين، وهذا يدل على أن أهل المعاصي على خطر في الدنيا وعلى خطر في الآخرة.

ولو لم يكن إلا أثر ذلك الغضب عليهم في الآخرة، لو لم يكن للعصاة عقوبة إلا أنهم إذا غضب الله عليهم انتقم منهم في الدنيا بأي انتقام، ولو لم يصل ذنبهم إلى الكفر؛ فحري بهم أن يتوبوا.

وكذلك من آثار غضب الرب عليهم أن يدخلهم دار العذاب، وهي النار، ولو لم يدخلوها إلا ساعة لاحترقوا، فكيف بما روي أنهم يمكثون فيها عشرات السنين وربما مئات السنين أو ألوف السنين وهم يعذبون فيها، على قدر ذنوبهم كباراً وصغاراً، ولا شك أن هذا عذاب شديد لو اقتصر على عذابهم ساعة لكان أولى بهم ألا يقترفوا ذنباً، وألا يصروا على معصية أياً كانت تلك المعصية.

ولما جاءت هذه الأحاديث وهذه الآثار في وعيدهم كان من عقيدة أهل السنة: أنا نخاف على العصاة، فنقول للعصاة: إنا نخاف عليكم، لا نأمن عليك أيها العاصي نقمة الله، لا نأمن عليك عذابه، لا تأمن أيها العاصي أن يأخذك الله على غرة وغفلة، لا تأمن أن يعذبك أي عذاب، حتى ولو كان عذاباً تظنه هيناً، روي عن بعض السلف أنه قال: (لو توعدني الله إذا عصيته أن يحبسني في الحمام لكان ذلك وعيداً شديداً) أي: يستحق أن أهرب من المعصية حتى لا أحبس في الحمام، فكيف بالحبس في النار التي تلتهب وتشتد على أهلها، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:١٢-١٤] ، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:٨] فإذا كان هذا وعيد بهذا العذاب الذي هو عذاب النار؛ فلا شك أنه يحمل المؤمن المصدق على الهرب من أسباب العذاب، حتى ولو كان يرجو في النهاية أن يخرج من النار وأن يدخل الجنة.