للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر لا بالظن]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى) .

لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:١١] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢] ، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:٣٦]] .

وهذا يقتضي أننا لا نتخبط بجهل، ونقول في المسلم بغير يقين؛ وذلك لأن المسلمين لهم ظواهر وبواطن، والحكم للمسلم على الظاهر، والمعاملة له على الظاهر، فمن أظهر لنا خيراً فإننا نحسن الظن به، ومن أظهر شراً فإننا نسيء الظن به.

روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن أناس كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، وإن أضمر لنا سوءاً! ومن أظهر لنا شراً أبغضناه وعاديناه ولو كان قلبه سليماً! أو كما قال رضي الله عنه، فجعل الحكم على مجرد ما يظهره الإنسان.

ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن أنصارياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساره يستأذنه أن يقتل رجلاً من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الأنصاري: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: يصلي ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) ، يعني: أنه أمر بمعاملتهم بالظاهر، ما دام يعلن الشهادة، وما دام يقيم الصلاة إقامة ظاهرة، فليس لنا أن ننقب عن قلبه، لماذا؟ لأنا لا ندري ما يكنه.

وفي قصة ذي الخويصرة الذي أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمر، ثم ولى فقال خالد بن الوليد: (ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا، لعله يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم) ، يعني: إنما نأخذهم بما يظهر لنا، أما ما في قلوبهم فهذا أمره إلى الله عز وجل.

ولما قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه رجلاً من المشركين بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها خوف السلاح، إنما قالها مستعيذاً من القتل -يعني: أنه ما قالها إلا لما رأى السلاح قد وصله، ولم يكن ذلك عن يقين منه- فقال عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن بطنه حتى تعلم هل قالها أم لا) يعني: أنك لا تدري ما في قلبه، فخذه بما ظهر لك، ففي هذه الأدلة ونحوها أن المعاملة تكون بالظاهر، سواء كان الظاهر خيراً أو شراً.

فالذين نراهم يظهرون الأعمال الخيرية نحبهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى، والذين يظهرون الأعمال السيئة نبغضهم ونكل أمر قلوبهم إلى الله تعالى.

وكثيراً ما تنكر على بعض الذين يظهرون المعصية: الذي تراه يحلق لحيته، أو تراه يشرب الدخان، أو تراه يسبل ثوبه، أو تراه يتكاسل عن الصلوات ونحوها، أو تسمعه يقذف ويسب، أو نحو ذلك، فتنكر عليه، فيعتذر ويقول: العمل على ما في القلوب، قلبي طاهر، وإذا كان قلبي نقياً فلا عبرة بما أفعله، ولا عبرة بهذه المظاهر، هكذا يعتذر، هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، وكما أن العبرة بالباطن فإن الحكم للظاهر، ونقول: نحن لا ندري ما في باطنك، فباطنك خفي، إنما نعاملك بظاهرك، فهذا الذي أظهرته لنا -وهو عملك بهذه المعاصي وإعلانها- دليل على التهاون بأمر الله، ودليل على تهاونك بعقوبة الله، وتهاونك بنظر الله، ودليل على أن في قلبك محبة لهذه المعاصي، وأما كون قلبك نقياً، وكونك مؤمناً ونحو ذلك، فهذا ليس إلينا، بل إلى الله عز وجل.

وأما إذا أظهر لنا الإنسان التقى والورع، ورأيناه يحافظ على العبادات، ولم نسمع منه شيئا ًمن الكلام الذي يقدح بعبادته أو ديانته فإننا نحبه، وليس لنا أن نتتبع أسراره، ولا أن نبحث عن خفاياه، ولا أن نظن به الظنون السيئة التي حذرنا الله منها، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:١٢] أي: لا تجسسوا على إخوانكم، لا تقولوا: فلان يمكن أنه منافق، لا ندري ما إيمانه، إذاً: نتجسس عليه ونتحسس، ونستمع إلى كلامه بخفيه وسريه! فليس لنا ذلك، فما دام أنا لم نره أظهر سوءاً، فإنا نعامله بما أظهر، ولا نقول: إن باطنه خبيث، وإنه يسر كذا وكذا، ليس لنا ذلك، وكذلك لا نتكلم فيه قدحاً بغير علم، فندخل في مخالفة الآية التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] يعني: لا تتبع ما ليس لك به علم فتتكلم بسوء، أو تستمع إلى شيء، أو تنظر إلى عورة ليس لك النظر إليها، أو تظن ظناً سيئاً {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:٣٦] أي: كنت مسئولاً عن هذه الأشياء، فلا تسمع إلى حديث قوم وهم لا يحبون أن تسمع له، وتقول: لعلي أسمع منهم ما يدل على بغضهم وعلى حقدهم على الإسلام! نقول: ليس لك ذلك، أما إذا أظهروا ذلك علناً، فإن لك أن تشهد به، وهذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم، فإن الذين عرف نفاقهم ما عرف إلا لما أعلنوه، كما في حديث عوف بن مالك أنه سمع بعض المنافقين يقول: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فعند ذلك قال له: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه، وأن الله تعالى أطلع نبيه على هذه المقالة، فإذا ظهر من الإنسان كلام يدل على سخرية، ويدل على بغض وحقد على المسلمين، ويدل على سوء طوية، وعلى تهمته ببغض الإسلام وببغض المسلمين؛ فحينئذٍ لا يترك على هذا، بل يقام عليه الحد، ويؤخذ حق الله تعالى منه، أما إذا كان أمره خفياً فليس لنا ذلك، وقد يقال: إن هذا قد يكون سبباً في كثرة المنكرات، نقول: ما دامت المنكرات خفية فلسنا مسئولين عنها، لكن إذا رأينا علامات ظاهرة، كأن يعرف أن هناك بيوت دعارة يتوافد إليها أناس مشكوك فيهم فإن لنا أن نتحفظ.