للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل الحق هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه]

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ، وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) ، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا أهل السنة والجماعة.

وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى، عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً) .

] .

هذه أدلة على أن أهل الحق هم المتمسكون بالسنة النبوية، وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والصحابة رضي الله عنهم ما خاضوا في علم الكلام الذي خاض فيه المتكلفون المتكلمون، وكذلك كانوا يكرهون الاختلاف حتى في الفروع، بل إذا اختلفت عليهم الأدلة قالوا: آمنا بها وفوضنا ما لم نعلم، وعملنا بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان في عهده.

وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الاختلاف، خرج عليهم مرة وقد اختلفوا في القدر، فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: احمر وجهه من الغضب، فقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم أم بهذا كلفتم؟ أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه) .

هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت علينا الأدلة أن نأخذ بما هو الأنسب والأظهر، وندع الاختلاف.

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع الاختلاف في هذه الأمة، ففي هذا الحديث الذي تقدم أخبر بأن أمته ستتفرق بهم الأهواء إلى ثنتين وسبعين فرقة، وكل طائفة تزعم أن الحق في جانبها، وكل طائفة تضلل غيرها وتبرر موقفها.

وهذه الاختلافات اختلافات اعتقادية، يضلل من خالف فيها، وليست اختلافات في الفروع وفي المسائل الاجتهادية التي طريقها الاجتهاد، فإن هذه لا يضلل فيها، ولهذا خالف بعض الأئمة مشايخهم دون أن يضللوهم، فالإمام مالك رحمه الله كان إماماً متبعاً، وقد خالف أبا حنيفة في أشياء، والإمام الشافعي قرأ على مالك وأخذ عنه علمه، وقد خالفه في أشياء من الفروع، وكذلك أحمد خالف الأئمة الذين قبله في أشياء، ولكن ليس هذا ضلالاً، وليست هذه المذاهب من الفرق الضالة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في النار إلا واحدة، إنما تلك هي البدع المضلة التي تتعلق بالعقيدة، ولا شك أن أمور العقيدة أدلتها يقينية، أدلتها قطعية، ولا يستدل عليها بالأدلة الظنية التي يتطرق إليها احتمال الثبوت أو عدمه، وإنما يستدل عليها بأمور قطعية الدلالة لا لبس فيها ولا خفاء، ولكن عميت الأعين وصمت الآذان، فإن أولئك المبتدعة يرون الحق أبلجاً، ويرون الصراط مستقيماً، فتأتيهم بالأدلة، وتوضحها لهم، ولكن هم صم ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا، بهت بما شهدوا، عموا عن الحق، وعن سماعه صموا، وعن قوله خرسوا، وهذا حرمان من الله، وإلا فالطريق واضح؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأهواء الثنتين والسبعين، وأمر بالتمسك بالجماعة، وقال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ، وفي رواية: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .