للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجهل بكيفية الروح المخلوقة دليل على الجهل بكيفية صفات الخالق سبحانه]

استدل العلماء بأمر الروح على أن الإنسان لا يستطيع أن يتدخل في أمر صفات الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الذين تدخلوا في صفات الله، وقالوا: كيف يتصف بأنه ينزل ويصعد؟ وكيف يتصف بأنه يجيء ويحكم وينزل لفصل القضاء؟ وكيف يتصف بأنه استوى على العرش واستقر عليه؟ وكيف يتصف بأنه حي وبأنه سميع بصير متكلم بكلام مسموع ونحو ذلك؟ كيف يتصف بذلك؟ هذا مما يخالف الخيال! هذا مما يخالف الفكر، هذا مما يخالف العقول، وأخذوا يخوضون في مثل هذا خوضاً زائداً، فيقول لهم شيخ الإسلام وغيره: أنتم قد عجزتم عن إدراك الروح التي بين جنوبكم، كل منكم مكون من جسد وروح، هذه الروح التي تدخل وتخرج، هذه الروح التي يحيا بها البدن ويموت بخروجها، هل أدركتم ماهيتها؟ هل قدرتم على معرفتها؟ هل علمتم من أي شيء هي؟ هل هي جسم أم هي عرض، أم هي جوهر، أم هي صافية، أم هي كدرة؟ ما هي ما هيتها؟ ومن أي شيء هي؟ وإذا خرجت أين تذهب؟ وأين تكون؟ كذلك أيضاً الأرواح الأخرى التي تتحققونها وتوقنون بها كيف لا ترونها؟ إذا عجزتم عن إدراك ماهيتها فأنتم عن إدراك كنه صفات الرب بطريق الأولى تعجزوا.

أنتم تتحققون أن هناك نوعاً من المكلفين وهم الجن الذي خلقهم الله من نار السموم كما أخبر الله، نتحقق أنهم موجودون معنا، وأنهم ينطقون ويتكلمون، وأنهم يقدرون على أن يتشكلوا بأشكال متعددة، يتشكلون بأشكال الحيوانات، وبأشكال الجمادات، ويتصورون بصورة إنسان، وبصورة سبع، وبصورة كلب، وبصورة حشرة، وبصورة هامة ونحو ذلك، كما هو مشاهد، وكذلك أيضاً يلابسون الإنس، يدخلون في جسد الإنسي، ويلابسونه، ولا يشعر أحد بهم، ولا يراهم ولا نراهم، من أي شيء مادتهم؟ من أي شيء أجسامهم؟ لا ندري.

إذاً: نقول: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] ، فنحن حجبنا وعجزنا عن إدراك ماهية هذه الأرواح التي هي أقرب شيء إلينا، والتي نشاهد أن الميت تخرج روحه ومع ذلك لا نراها، كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:٨٣-٨٧] هل تستطيعون أن ترجعوها إذا خرجت؟ فإذا عجز الإنسان عن إدراك هذه الروح التي هي أقرب شيء إليه فكيف يخوض في خالقه؟ وكيف يخوض في صفات الباري عز وجل؟ الأولى له أن يسلم بذلك، وأن يرد علمها إلى عالمها.

كذلك أيضاً: لا يخوض في أمر المخلوقات التي لم يرها، لا يقول مثلاً: ما هي كيفية خلق الملائكة؟ ومن أي شيء أجسامهم؟ وكيف تركيب أعضائهم؟ وكيف يسجدون وعلى أي أعضاء؟ وهل لهم يدان ورجلان كما لنا لأن الله قد ذكر أن لهم أجنحة؟ وهل لهم وجوه كوجوهنا؟ وكيف ينطقون ويتكلمون؟ الله أعلم، لا علم لنا إلا أنهم مخلوقون، وأنهم أرواح تستغني عن أجساد ظاهرة، بحيث ينزلون ولا نراهم كما أخبر الله بأنهم ينزلون في الأرض في ليلة القدر كما في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:٤] إذا تنزلوا نحن لا نراهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم في صلاة العصر وصلاة الفجر بقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) ، هل نحن نراهم؟ لا نراهم، هم عالم ونحن عالم، حتى الشياطين الذين سلطهم الله على نوع الإنسان، وقد أخبر الله أن الشيطان يصل من الإنسان إلى قلبه، يقول الله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:٥] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، يعني: ينفذ فيه ويسري في عروقه كما تسري روحه، يصل إلى جميع جسده ولا يرده شيء، إلا إذا استعاذ العبد بالله، ولجأ إليه؛ فإن الشيطان ينخنس، ولذلك سمي (بالوسواس الخناس) .

ونحن مع ذلك لا نراهم، إذاً: هم عالم ونحن عالم، فليس لنا أن ننكرهم، ولا أن نجحدهم؛ لأن الله قد أخبر بهم، وخبر الله حق، وأخبر بأنهم يروننا في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧] يعني: إن الشياطين يرونكم هم وقبيلهم، يعني: وأمثالهم كالجن ونحوهم، يرونكم دون أن ترونهم، فما دام أننا متحققون بوجود أرواح لا نراها، وبأن هناك أرواحاً مخلوقة كالجن والشياطين والملائكة؛ فنعرف بذلك قصر علمنا عن إدراك كنهها، وعن معرفة تركيبها.