للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (كل من عليها فان)]

قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] ، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦] ، و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥] المراد بها أنها يأتي عليها الموت الذي هذا صفته، فقد أتى على الروح الموت، وهو مفارقتها للجسد.

عند بعض الفلاسفة أن الروح قديمة ليست مخلوقة، وعبر عن ذلك شاعرهم ابن سيناء في قصيدته التي يقول في أولها: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تقلب وتفجع وصلت على كره فلما وصلت ألفت مرافقة الخراب البلقع وصفها بأنها هبطت من المحل الأرفع من السماء، وشبهها بالورقاء، والورقاء نوع من الطيور تسمى الورق، فذكر أنها وصلت إلى هذا الجسد مكرهة، ولكن بعدما وصلت تمكنت وألفت مرافقته، مع كونه خراباً بدونها، لكن لا يسلم لهم أنها قديمة، بل هي مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، فإن الله تعالى هو خالق كل شيء، فأما فناؤها فيحصل بمفارقتها لهذا الجسد، والله تعالى أخبر بأن كل شيء هالك إلا وجهه، فهلاكها معناه خروجها من أجسادها، فهذا موت، وبعضهم يقول: إن قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦] المراد كل ما خلق للفناء، وأما ما خلق للبقاء فإنه لا يفنى، ويقول: ما خلق الله الجنة وما فيها من الحور ونحوها إلا للبقاء فلا تفنى، ولا يأتي عليها الموت؛ لأنها خلقت للبقاء، ومنهم من يقول: الحور التي في الجنة تفنى، ثم بعد ذلك تحيا.

وأما الصعق الذي ذكره الله في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] وكذلك الفزع المذكور في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:٨٧] فزع أولاً، ثم صعق ثانياً، فهذا الصعق إن كان على الأحياء فإنه موت، يعني: أن الناس يموتون في ذلك اليوم، إذا نفخ في الصور ماتوا كلهم، وعبر بالصعق عن الموت، والمراد الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء، ينفخ في الصور فيموتون موتة واحدة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه أخرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعون، قيل: إنه أراد أربعون سنة.

وهذا الصعق موت في حق الأحياء، وأما الأرواح فإنه ليس موت في حقها، وإذا صعقت لا يلزم أن تموت، وقيل: إن الأرواح هي من المستثنى في قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] ، فالذين يشاء الله عدم صعقهم مثل الأرواح ومثل حور الجنة، وكل ما خلق للبقاء.

وبكل حال نؤمن بأن هذا الكون الذي نحن فيه هو الذي يفنى، وأن هناك مخلوقات خلقت للبقاء كالأرواح، فالله هو الذي خلقها وقدر لها مقاديرها، فإذا حصل النفخ في الصور فإنها لا يأتي عليها هذا الفناء والفزع، والصعق يأتي على غيرها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صعق يوم القيامة بعد البعث، وأن الناس يصعقون يوم القيامة، وكأنه صعق لفزع يأتيهم، يقول: (فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ، صعقة الطور هي المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:١٤٣] فدل على أن هناك صعقة يوم القيامة، وهذا الصعق ليس بموت وإنما هو غشية تحصل من هذا الفزع، ثم يحصل بعدها إفاقة، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، فيجد موسى قد أفاق قبله أو لم يصعق جزاء له على صعقته يوم الطور.