للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدلة ثبوت الاستطاعة]

قال رحمه الله: [وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] والمراد: نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) -إن شاء الله تعالى- وكذا قول صاحب موسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:٦٧] ، وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:٧٢] ، والمراد منه: حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته، فإن تلك كانت ثابتة له، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل؛ لاشتغاله بغير ما أمر به، أو شغله إياها بضد ما أمر به، ومن قال: إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل يقولون: إن القدرة لا تصلح للضدين، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه] .

معلوم أن الإنسان معه قدرة عامة، ولكن قد يغلب تلك القدرة والاستطاعة ما يفوتها عليه، ففي قصة موسى والخضر أن الخضر: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:٦٧-٦٨] ، ولكن موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:٦٩] ، ومع ذلك لم يستطع الصبر؛ لأنه رأى ما أنكره، ففي المرة الأولى لما خرق السفينة لم يستطع أن يصبر؛ لأنه رأى شيئاً عجباً فلم يستطع أن يصبر، ثم أخبره الخضر بأنه أراد عيبها حتى لا تؤخذ منهم، ولما رآه قتل غلاماً بغير ذنب لم يصبر أن ينكر عليه، ولكن لم يعلم عاقبة هذا الغلام، وأنه طبع كافراً، فلم يستطع الصبر مع كونه قادراً أن يمسك نفسه، ولما بنى الخضر الجدار في تلك القرية التي لم يضيفهما أهلها استنكر ذلك، كيف أنهم لم يضيفونا! ومع ذلك تقيم جدارهم؟ فلم يستطع أن يصبر، وهو قادر على ذلك.

إذاً: قوله: ((لَنْ تَسْتَطِيعَ)) ليس المراد لا تستطيع بدنياً، ولا تستطيع عقلاً، بل هو يقدر، لكنك إذا رأيت شيئاً تستنكره وتستقبحه؛ فالعادة أنك تندفع، ولو كنت لا تدري ما عاقبته، هذا معنى الاستطاعة في هذا الباب، وبلا شك أن هذه الاستطاعة مقدورة، ولو لم تكن مقدروة لما قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:٦٩] ، فأفاد بأنه قادر وأن عنده استطاعة.

والاستطاعة تكون مالية، مثل استطاعة الذي يريد الحج ونحوه، أو تجب عليه نفقة أقاربه، وتكون بدنية كاستطاعة صوم الكفارات ونحوها، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:٤] ، في كفارة الظهار، وفي كفارة القتل، يعني من لم يستطع العتق، وهو استطاعة مالية، والصيام استطاعة بدنية محضة، وقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:٤] يعني: من لم يستطع صوم الشهرين الذي هي استطاعة بدنية لعذر من الأعذار.

فيقال في القدرة: الله تعالى قدرته عامة، وجعل للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم، وأما الآية التي بدأ بها الشارح هنا، وهي قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] ، فمعلوم أنهم لهم أسماع ولهم أبصار، ولكن كانوا ينفرون من هذا الشيء فلا يستطيعون أن ينصتوا ويستمعوا له، وكذلك لا يستطيعون مقابلته، وفي إمكانهم أن يجلسوا ويستمعوا، ولكن الدوافع تدفعهم، قد ذكر الله مثل ذلك عن المشركين في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:٥] ، ومعلوم أن هذا ليس بظاهر، فقلوبهم كقلوب غيرهم، ولكن كأنهم يقولون: كلامك لا يدخل في قلوبنا ولا يدخل في أسماعنا، ولو سمعناه لم نتأمله ولم نتعقله ولا ننظر إليه نظر الاعتبار، فهل يقال: إنهم عاجزون عن الاستماع؟ ليسوا عاجزين، فكذلك قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ، هم قادرون على السمع، ولكن ينفرون منه، وهذه النفرة من الحق بسبب وسوسة الشيطان.

فالآن -مثلاً- كثير من أهل البدع لا يستطيعون أن يستمعوا النصائح التي تخالف بدعهم، إما أنهم لا ينصتون لها، وإما أنهم إذا حضروها أخذوا يتكلمون، كما في قول المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:٢٦] ، وإما أن يهربوا ويخرجوا ويبتعدوا، كما حكى الله عن نوح أنه قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:٧] ، كأنهم يقولون: إذا سمعناه نخشى أن يدخل في قلوبنا شيء فيعلق بها، وهكذا يقوله كثير من المبتدعة الآن، كما يحكي لنا بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى نجران وألقى محاضرة تتعلق بالسنة وعقيدة أهل السنة، وكان الغالب على أهل المسجد أنهم من المكارمة الذين هم الإسماعيلية، فلما جلسوا يستمعون جاء مشايخهم وأخذوا يقيمونهم واحداً واحداً واحداً مخافة أن يقع في أسماعهم أو يصل إلى قلوبهم شيء يغير معتقداتهم، فهم -ولو كان الكلام حقاً- لا يقبلونه، ليس معهم قدرة ولا استطاعة على أن يقولوا: نستمع وننظر: إن كان حقاً فإنا نقبله، وإلا لم يضرنا سماعه، بل يبتعدون عنه.

وهكذا أخبرنا بعض الإخوة الذين جلسوا مدة قصيرة يدرسون في المرحلة المتوسطة في القطيف، أنه اتفق مع طلابه وهم كلهم شيعة على أن يتجادل معهم بالقرآن وبصحيح السنة، ولما عزموا على المجالسة، وهم يعتقدون أنهم سيغلبونه، جلسوا معه مرة أو مرتين، وكأن آباءهم أحسوا بشيء من التغير في معتقدهم، فما كان منهم إلا أن رحلوه، وقالوا: ابتعد عن بلادنا، ولا تعد تدرس في بلادنا ولا تدرس أولادنا! لماذا؟ هل كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا منه، مع أنه إنما كان يبين معاني الآيات والأحاديث ونحوها؟ نقول: هم يستطيعون أن يسمعوا، قال الله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} معلوم أنهم لهم قدرة على ذلك، ولكن هناك ما يدفعهم، ويحول بينهم وبين هذا الاستماع، فالاستطاعة أصلاً موجودة، ولكن هناك ما يدفعها عن أن تكون مؤثرة أو تصل إلى أصلها.