للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يكلف الله العباد إلا ما في وسعهم]

قال رحمه الله: [وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها، وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه, وإن كان قد يسمى مستطيعاً، فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة، لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك، فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لابد من إحداث إعانة أخرى تقارن مثل جعل الفاعل مريداً فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة يدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة.

فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة، لزم وجود الفعل، وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق.

وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة] .

هذه تعتبر أمثلة لما تقدم من أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما في وسعهم وما في إرادتهم وما تصل إليه قدرتهم، وما لا مشقة عليهم فيه، وإن كانوا قد يستطيعون فعل بعض الأشياء التي أسقطت عنهم، لكن مع مشقة تلحقهم، فالمشقة تجلب التيسير، وقد نفى الله الحرج في هذه الشريعة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] ، ولما ذكر أنه يجوز لهم استعمال التراب عند فقد الماء أو عند الخوف من استعماله لمرض ونحوه، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:٦] ، ولما أباح لهم الفطر في رمضان للسفر وللمرض، قال بعد ذلك: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] ، فإن المسافر الذي يشق عليه الصيام، ولكنه يستطيعه، وإذا صام انقطع عن العمل، وانقطع عن خدمة نفسه، واحتاج إلى أن يخدمه رفقته، واحتاج إلى أن يظلل عليه، ويرش بالماء لشدة جهده، فهذا قد يقول: إني أطيق، فنقول: ما فاتك أشد وأعظم، حيث إنك أعوزت غيرك إلى أن يخدموك، وإلى أن يقوموا عليك، وأبطلت مصالح نفسك، واحتجت إلى من يخدمك، ولو كنت تستطيع أن تكمل يومك.

وكذلك المريض، لو قال: أنا أستطيع أن أصوم مع المرض، ولكن المرض يزداد مع هذا الصيام ويشتد، وتكلف صاحبه الصيام، نقول: إنه قد كلف نفسه، وله رخصة وإن كان يستطيع الصيام، ولو قال الفقير: أنا أستدين وأحج وأصبر على الديون التي أتحملها في ذمتي، نقول: إنك قد كلفت نفسك ما فيه مشقة؛ لأنك لست على يقين بأنك تقدر على وفاء هذه الديون التي تتحملها، أو أنك -مثلاً- في سفرك قد تضيع أهلك، وقد تعوزهم إلى أن يتكففوا الناس؛ لأنك أنت الذي تتكسب لهم، وتنفق عليهم من كسبك، فإذا سافرت عنهم أدى ذلك إلى أنهم يحتاجون، ويسألون الناس، (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فيسقط عنك الحج في هذه الحالة إذا لم تجد ما ينفقه أهلك على أنفسهم حتى ترجع.

وهكذا أيضاً: المصلي الذي أبيح له أن يصلي جالساً، لو قال: باستطاعتي أن أصلي قائماً، وكان القيام يزيد في المرض، ويؤخر البرء والشفاء، فنقول: لست بمكلف، وأنت غير مستطيع، والذي يعجزه القيام يجزئه الجلوس، ويكون أجره كأجر القائم سواء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، ولو كانت الاستطاعة قد تحصل، ولكن مع نوع من المشقة، وبكل حال فالمشقة التي نفاها الله تعالى هي التي فيها صعوبة على العباد، وهي من جملة ما لم يكلفوا به: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] ، فإذا كان على العباد شيء من الضيق ومن الحرج ومن الشدة، فإن ذلك يجلب لهم الرخصة في أمورهم عامة، وفي هذا الأمر خاصة.