للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن الشرع خاطب العرب بصفات الله وهم يفهمون معانيها]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر، وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.

فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ، حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه.

وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع، والشبع، والري، والعطش، والحزن، والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أو: أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه، وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] .

أورد الشارح هذا الكلام ليبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام خاطبهم بكلمات يفهمونها، وإلا لما سكتوا حتى يستفهموا، فإن الإنسان الذي لا يفهم الكلمة لابد أن يسأل عنها، فأنت مثلاً لو لقيت رجلاً أعجمياً، ثم إنك خاطبته بمثل هذه الكلمات ولم يفهم، فإنه يضيق صدره حتى تفهمه، فتقول له: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، هذه -تشير إليها- اسمها شاة، وهذه اسمها بقرة، وهذا اسمها ناقة، وهذا جمل، وهذا حصان، فحينئذ يفهم.

وهكذا أيضاً إذا عبرت له عن الأشياء العلوية، قلت مثلاً: هذه هي السماء، وهذه هي الأرض، وهذا اسمه جبل، وهذا اسمه واد، وهذه شجرة، وهذه نخلة، إلى أن يفهم.

وهكذا أيضاً تعبر له عن المعاني التي قد لا يكون مشاراً إليها، ولا يكون لها أشخاص؛ مثل الجوع، والعطش، والخوف، والفرح، والحزن، والضحك، والبكاء، فإنه لا يفهمها إلا إذا أحس بها.

فإذا كان الأمر كذلك فلاشك أنه عليه الصلاة والسلام عندما تكلم بالكلمات كانوا يفهمون معناها، فكانوا يفهمون أنه إذا أخبر بأن الله سميع بصير؛ أن معناه أنه يدرك الأصوات ويبصر المرئيات، وكذلك إذا أخبر بأنه متكلم، يفهمون أن الكلام هو ما يسمع وما يعبر به عن المعاني، ويفهمون أن العلم ضد الجهل، ويفهمون أن المحبة ضد الكراهية أو ضد البغض وهكذا.

فإذا كانوا يفهمون ذلك وهي لغتهم فكيف يقال: إنها غير معلومة، وإن هذه الكلمات بمنزلة الكلمات الأعجمية التي يسمعها الإنسان ولا يدري ما معناها؟! فأنت لو سمعت كلاماً أعجمياً أو كلاماً لم تفهمه، قلت: كلمني فلان بكلام غير معروف، فلا تشهد له بالبيان، ونحن نشهد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين، وأن القرآن بيان، قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١٣٨] ، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:٤٤] فنشهد بأنه بين للناس، وأن الناس فهموا عنه، ولو كان ما يقوله النفاة والمبتدعة من التكلف في طرح تلك الكلمات لما كان قد بين، هم لا يقولون إنه بين، بل يعتقدون أنه لبس، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من التلبيس.