للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إخبار الرسول بالأمور الغيبية وطريقة التعليم فيها ترد على نفاة الصفات]

قال رحمه الله: [وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية.

ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:١١١] .

وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنًى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.

فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة] .

سمعنا أن هذا من جملة ما بينه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم عن أمور لم يشاهدوها، فمن ذلك أمور قد سبقت ولكن يفهم معناها، فأخبر الله بأنه أغرق قوم نوح وأنجى نوحاً في السفينة، فنعرف أن قوم نوح بشر مثلنا، وأن السفينة مركب من المراكب يسبح في البحر، فأخبر بأنه نجى نوحاً ومن معه في السفينة، في قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:١٥] وفي قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:٢٧] هذا شيء مفهوم، سمعناه وفهمنا معناه.

وكذلك إخباره بأنه أهلك عاداً بالريح، فعاد بشر مثلنا إلا أنهم أشد خلقاً، كما في قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:١٥] والريح من جنس الريح التي نعرفها إلا أنها أشد، وهكذا يقال في الأخبار عن الأمم السابقة، فمعناها مفهوم.

وأما الأمور الغيبية التي هي من الأمور الأخروية فقد أخبر الله تعالى على لسان رسوله عن أمور غيبية من الأمور المستقبلة، ولكن نصدق بها ونفهم مدلولها الإجمالي وإن لم نفهم الكيفية.

قد ضربنا مثلاً بالصراط وبالميزان، وكذلك الحوض في الآخرة، وهكذا حساب الله تعالى للخلق، وهكذا خلقتهم وكيفيتهم، وكذا ذكر الجنة والنار وما فيهما، فمعانيها مفهومة وإن لم يكن الذي نشاهده في الدنيا كالذي يحصل في الآخرة، بل بينهما تفاوت، فعرف بذلك أن الرسل بينوا للناس، وأن الناس فهموا المعنى العمومي الذي يحصل به إدراكهم وانتفاعهم.