للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مخالفة طريقة أهل البدع في باب الصفات لطريقة القرآن والسنة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولاشيء يعجزه) .

لكمال قدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠] ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:٤٥] ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:٤٤] ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥] .

(لا يؤده) أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه.

فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] ، لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:٣] لكمال علمه.

وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨] لكمال قدرته، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] لكمال حياته وقيوميته، {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا يرى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبيلة) عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم، وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً.

ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم، ولا رائحة، ولا مَجَسَّة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجرى عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.

وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة.

وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك، لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلم منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب] [والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية، هو سبيل أهل السنة والجماعة، والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.

وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة] .

قال رحمه الله: [والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل؛ وهي: أنه عالم، قادر، حي.

وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي.

ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى] .

أي أن هؤلاء النفاة ليس لهم دليل على هذا السلب: أن الله ليس بفوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا متحرك ولا ساكن إلى آخره، بماذا استدلوا؟ اعتمدوا على طرق الفلاسفة، والفلاسفة اعتمدوا في ذلك على طرق عقلية، ولكنها في الحقيقة خيالات تخيلوها، فهذه طريقتهم في النفي.

وأما في الإثبات فلم يثبتوا إلا قليلاً، فالأشعرية أثبتوا سبع صفات وأثبتوا الأسماء، والمعتزلة أثبتوا الأسماء ولكن نفوا دلالتها على الصفات، فقالوا: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وجعلوها أسماء مجردة عن الصفات تعالى الله عن قولهم.

ويرد عليهم بطريقة القرآن، فإن القرآن إذا نفى أتبع النفي بالإثبات، فإن قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:١٢] إثبات لكمال القدرة، وإثبات للإحاطة بكل شيء، مع أنه قد نفى أن يحيط الناس به، في قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:١١٠] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥] فدل على أنه لكماله لا يستطيعون أن يطلعوا إلا على ما أطلعهم عليه، وكذلك جمع بين النفي والإثبات في الآية التي تقدمت، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، فجمع بين النفي والإثبات في بعض آية، ورد على الفئتين: الفئة التي غلت في الإثبات حتى شبهت صفاته بالمخلوقات، والفئة التي غلت في النفي حتى نفت عنه صفات الإثبات الكمالية.

فهذه هي طريقة الرسل، وطريقة الكتاب والسنة، هذه هي التي تروي الغليل، وتشفي العليل، فمن سار على نهج أهل السنة في النفي والإثبات وعلى طريقة الرسل، فلا يخشى من الملام، ولا يرد عليه كلام.