للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[متى يحل دم المرء المسلم؟]

ولإباحة قتله ثلاث حالات، هي المذكورة في حديث ابن مسعود المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فهذا دليل على أن الذي يفعل واحدا ًمن هذا يحل دمه.

فالثيب الزاني هو الذي زنى وهو محصن، فهذا يقتل حداً ولا يكفر بقتله، ولهذا يصلى عليه ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، والنفس بالنفس أي: قتل القاتل؛ فإنه من جملة ما أمر الله به، بل قد جاء ما يدل على وجوبه عند طلب أولياء القتيل، واستدل بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨] (كتب) يعني: فرض عليكم.

ولكن هذا فيما إذا طلب الأولياء القصاص، ولهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨] أي أن من طلب القتل طلب قصاص فله، فإذا عفا فأجره على الله.

ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ظن بعض الأعراب أن حرمتها قد زالت، فقتل بعضهم بالثأر الجاهلي، فقتلت هذيل رجلاً بثأر قديم، وقالوا: زالت حرمة مكة.

فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب وأخبر بحرمة مكة، ثم قال: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يدى، فإن أراد الثانية فخذوا على يديه) ، فإذا قتل له قتيل فلا يقتل إلا القاتل، أو يأخذ الدية إذا لم يعف مطلقاً، فإذا قال: أريد ما نحن عليه في الجاهلية إذ بعض القبائل التي لها عز ومكانة لا يقتلون بالمقتول واحداً منهم، بل يقتلون أكثر من واحد، وكم قتل المهلهل بأخيه كليب حتى كاد أن يفني بكر بن وائل، ولما أرسل بعض بني بكر ابناً له إلى المهلهل وقال: اقتله وتنتهي هذه الحرب قام وقتله وقال: هذا بشسع نعل كليب.

يعني أنه ليس فداء لـ كليب، وإنما هو بشسع نعل كليب، فغضب أبوه وأنشأ قصيدة طويلة، وهي التي يقول فيها: قربا مربط النعامة مني إن قتل الرجال بالشسع غالي قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن عيالي يقول فيها: (قربا مربط النعامة مني) في خمسين بيتاً، وحميت الحرب بينهم حتى أنهكت كلاً من القبيلتين بكر وتغلب، والواقع أنهم يجتمعون في وائل، فبكر هو ابن وائل وتغلب أيضاً ابن وائل، فقتل خلقاً كثيراً في أخيه كليب، فجاء الإسلام وقرر أنه لا يقتل إلا واحد، فالنفس بالنفس في هذه الآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] ، وكذلك في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس) أي: لا زيادة، فلا يقتل اثنان في واحد، ولا يقتل غير القاتل ولو كان القاتل، وضيعاً فلا يقولون: نقتل به شريفاً، قتيلنا من الأشراف فلا نقتل إلا من له مكانة.

فالله تعالى جعلهم على حد سواء لا فضل لهذا على هذا، (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) هكذا جاء الحديث.

فالنفس بالنفس، فلا يقتل إلا من قتله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه) يعني: المرتد؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) (التارك لدينه المفارق للجماعة) ، فأما بقية المسلمين فلا يجوز استحلال دم امرئ مسلم بغير حق، ففي الحديث: (لا يحل إراقة قدر محجمة دم إلا بحقه) .

ذكروا أن القصاص واجب عند اليهود، والعفو إلى دية أو نحوه واجب عند النصارى، وجاء في هذه الشريعة أنه ليس بواجب ولكن مخير، إن شاء قتل، وإن شاء عفا مطلقاً، وإن شاء عفا إلى الدية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:١٧٨] يعني: عفي له إلى الدية: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨] والعفو مطلقاً أفضل كما سيأتي.

والحاصل أن هذا القصاص يتعلق بالاعتداء الذي هو في النفس أو فيما دون النفس، وجاء الإسلام بشرعيته، ثم إن الدول التي تحكم بالقوانين أبطلت هذا الحكم، يقول قائلهم: إذا قتل منا واحد نقص شعبنا، فكيف نقتل الثاني فإنه ينقص شعبنا أكثر؟! ولكن ما علموا أن ترك قتله سبب لكثرة القتل، كان العرب يقولون: (القتل أنفى للقتل) أي: قتل القاتل أقل لوقوع القتل، فجاء في القرآن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩] ، فالقصاص سبب للحياة كيف؟ الذي يريد أن يقتل أو يهم بالقتل يأتيه التفكير ويقول: إذا قتلته قتلت، فما فائدتي من هذا القتل كوني أني أقتله؟ هذا لا يفيدني، ولو أني شفيت غيظي في هذه اللحظة فسوف يقتلونني غداً أو بعد غد.

فيقلع ويترك القتل، فيكون خوفه من القتل سبب تركه للقتل، فهذا معنى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩] ، وقول العرب: (القتل أنفى للقتل) يعني: أقل للقتل.

فالدول التي لا تحكم بهذا القصاص يكثر فيها القتل، يقتل إنسان واحداً وعدداً ويقول: لا ضرر علي، سوف يدخلونني في السجن مدة طويلة أو قصيرة ثم بعد ذلك يخلى سبيلي.

فيقدم على القتل، وكثر القتل في كثير من الدول، وصار قتل الرجل كأنه قتل نعجة، لا يحصل عليه تبعات، مع ما ورد من الإثم الكبير في قتل مسلم بغير حق، أو قتل أية نفس عدواناً، بذلك نعرف أن الشريعة ما جاءت إلا بالأحكام الشرعية التي تناسب المقام، والتي فيها الخير والمصلحة.