للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آلة القصاص وكيفيته]

يقول: [وبآلة ماضية] .

القصاص يكون بآلة ماضية، أي: آلة حادة.

فإذا كانت سيفاً فيكون سيفاً حاداً، وإذا كان خنجراً يؤمر بأن يقطع رأسه ويكون أيضاً حاداً وإذا كانت بندقاً ليرميه يكون معروفاً بالإصابة.

وأكثر العلماء على أن القصاص لا يكون إلا بالسيف بضرب العنق، وقد ورد حديث في السنن: (لا قود إلا بالسيف) أي: لا قصاص إلا بالسيف.

هكذا جاء الحديث، والحديث فيه مقال، ولكن كأنهم يقولون: نختار العمل به ولو كان ضعيفاً؛ لأنه أرفق بالقاتل، ولأنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، فيكون القتل بالشيء الذي يريح القاتل بحيث لا يتعذب، فلا يجوز تعذيبه.

ولو قال الولي: إن هذا مثَّل بأخي أو بابني فطعنه عشرين طعنة، فأنا أريد أن أطعنه هنا وهنا وهنا حتى أشفي غيظي؛ لأنه طعن أخي أو ابني فهل يمكن؟ الحديث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، فلا يمكّن من ذلك على المختار، وذهب بعض العلماء إلى أنه يمكن، وأنه يقتل بمثل ما قتل به، واستدلوا بآيات من القرآن في سورة البقرة: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤] ، والمثلية تقتضي المساواة، وفي آخر سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦] ، والمثلية تكون بالمساواة، وفي سورة الشورى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] ، ونحو ذلك من الآيات، فإنها دالة على أن من أراد أن يعاقب فله أن يأخذ الثأر من ذلك المعتدي عليه وأن يفعل به كما فعل.

ومن الأدلة أيضاً قصة تلك الجارية من الأنصار التي وجدت قد رض رأسها بين حجرين، وعثروا عليها وفيها رمق وبقية حياة، فسألوها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان؟ حتى سموا يهودياً، فأشارت برأسها أن: نعم.

فأحضر ذلك اليهودي وضيق عليه فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فوضع رأسه على حجر وشدخ بالحجر الثاني كما قتل الجارية، وفي هذا أيضاً دليل على أن الذكر يقتل بالأنثى، فهذا دليل من يقول: إنه يقتل بمثل ما قتل به.

ويجيبون عن الحديث: (لا قود إلا بالسيف) بأنه ضعيف، وأما حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فالمراد: إذا كان القتال قتالاً مباحاً، كقتال المشركين، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى المسلمين عن التمثيل، ويقول: (لا تغدروا ولا تمثلوا) أي: لا تمثلوا بالقتلى.

والتمثيل هو أنهم إذا قتلوا قتيلاً قطعوا أنفه، وفقئوا عينه، وشرموا شدقه، وبقروا بطنه، وأخرجوا قلبه، يمثلون به بعد أن يقتل، ولا فائدة في هذا التمثيل، فنهى عن التمثيل، فهذا معنى: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .

ثم هؤلاء الذين قالوا: يقتل بمثل ما قتل به اختلفوا إذا قتله بفعل محرم، فكيف يقتل؟ فقيل: يحرص على المماثلة.

وممن قال ذلك واختاره ابن حزم صاحب (المحلى) ، فيقول مثلاً: لو قتله بفعل اللواط الذي هو محرم، مثل بعض الفسقة قد يغصب صبياً ثم يلوط به فيموت تحته بهذا الفعل، فكيف يقتل هذا اللوطي؟ اختار ابن حزم أنه يدخل في دبره وتد أو خشبة حتى يموت بذلك حرصاً على المماثلة، هكذا قال، وإذا قتله بسقيه خمراً فجرعه خمراً إلى أن مات -والخمر محرم- قال: يسقى ماءً إلى أن يمتلئ بطنه وتتشقق أمعاؤه، فيموت بذلك كما مات صاحبه بالخمر.

وهذه تقديرات، ولكن الأولى العمل بالقول الأول الذي هو إحسان القتل؛ لعموم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .

والله أعلم.