للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإحرام من الأبطح أو منى يوم التروية]

تذكر صفة الحج مع الاختصار، وذلك لأن الحجاج عادة يأتون ثم ينزلون بالأبطح، والأبطح وما حوله في تلك الأزمنة كان فيه متسع، ولم تمتد إليه المباني، فكان الحجاج ينزلون هناك.

فإذا جاؤوا -مثلاً- في اليوم الرابع أو في اليوم الخامس أنهوا عمرتهم إذا كانوا متمتعين، وبنوا لهم خياماً أو استظلوا تحت شجر وأقاموا هناك إلى اليوم الثامن، ويسمى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية أحرموا بالحج.

لماذا سمي يوم التروية؟ لأنهم يرتوون فيه من المياه -أي: يملئون- ما معهم من القرب والمزادات التي جاؤوا بها من بلادهم، يملئونها من الماء، حيث لم يكن يوجد في تلك الأزمنة الماء في منى، ولا في مزدلفة ولا في عرفة غالباً، فسموه يوم التروية.

ولعله في القرن الثاني أو الثالث عشر وجدت المياه بعمليات كان لها تأثير، واحتيج فيها إلى أتعاب ومشقة، إلى أن أوصل الماء إلى تلك الأماكن ضمن جداول يسير فيها، ويكون فيها فتحات إلى أن يمر بالمشاعر كلها، يمر بمنى وبمزدلفة وبعرفة، هذا في القديم.

ثم في عهد الحكومة اعتنت بالمياه في تلك الأماكن، وأمنتها في أيام المناسك بواسطة الأنابيب التي امتدت وصارت في كل الأماكن، والحمد لله.

وفي يوم التروية الذين كانوا قد تحللوا يحرمون بالحج، والذين بقوا على إحرامهم فما تحللوا -كالمفرد والقارن- إذا كانوا نازلين بالأبطح يتوجهون مع الحجاج إلى منى، وفي تلك الأزمنة كانت منى خالية ليس فيها أحد إلا يوم التروية وما بعده، أما في هذه الأزمنة فالمشاهد أن الأبطح وما حوله لم يبق فيه مساكن للحجاج، بل قد امتدت المباني والعمارات إلى أن وصلت إلى منى أو تجاوزت منى من الجهات الأخرى، إلا أنه منع من البناء في المشاعر، فهذه الأماكن أصبحت مملوكة، وأصبح الحجاج الذين يأتون -حتى ولو في أول الشهر- يستقرون في منى في مخيمات لهم يبنونها من حين يأتون من أول الشهر أو من اليوم الثاني أو الرابع أو الخامس، حتى الذين يأتون في اليوم السابع أو الثامن يأتون إلى منى ويستقرون فيها هذه الأيام كلها.

فعلى هذا لا يكون ليوم التروية ميزة عن الأيام التي قبله لمن كان مفرداً أو قارناً، وأما من كان متمتعاً فإنه يحرم من منى بدل أن يكان يحرم من الأبطح؛ لأنهم في منى مستقرون.

وبعض العلماء قال: يستحب أن يحرم تحت الميزاب -يعني ميزاب الكعبة-.

ولكن الصواب أنه لا حاجة إلى ذلك، وأن هذا لم يرد، وأن فيه مشقة على الناس، والميزاب لا يتسع إلا لواحد أو لاثنين، فكيف يكلف مئات الآلاف أن يذهبوا إلى تحت الميزاب فيحرمون منه، والصحابة أحرموا من رحالهم وأماكنهم التي كانوا فيها.

ثم ذكروا أنه عند هذا الإحرام يفعل مثل ما فعله عند الميقات، أي: إذا تيسر له اغتسل وتنظف وتطيب، وأخذ من شعر شاربه وأظفاره إذا خاف أنها تطول وتؤذيه، وقد ذكرنا أن هذا التنظف يفعل عند الحاجة، فإذا كانت أظافره طويلة، وكذا شعر شاربه أو عانته فإنه يتعاهدها عند الإحرام، وذكرنا أن الإحرام في تلك الأزمنة كانت تطول مدته، فيخشى أن تطول هذه الأشعار والأظفار فتؤذيه، وأما في هذه الأزمنة فإن مدة الإحرام لا تطول بالعمرة، إنما هو نصف يوم أو نحوه، فإذا لم تكن طويلة فلا حاجة إلى تعاهدها، ويقال كذلك عند الإحرام بالحج.

ولا شك أنه يستحب الاغتسال؛ لأنه من باب النظافة، وقد تقدم في الأغسال المستحبة في كتاب الغسل أنه يسن الاغتسال عند الأعمال الصالحة، فقالوا: يسن الاغتسال عند الميقات، والاغتسال عند دخول مكة، والاغتسال عند إرادة الطواف بالبيت، والاغتسال عند الإحرام بالحج، والاغتسال عند الوقوف بعرفة -أي: عند دخول الوقت-، والاغتسال للوقوف بمزدلفة، والاغتسال لدخول منى، والاغتسال لرمي الجمار، والاغتسال لطواف الإفاضة، ونحو ذلك كما تقدم في باب الغسل.

وقد عرفنا أن الحكمة في الاغتسال هي النظافة، فإذا كان البدن نظيفاً والإنسان حديث عهد بنظافة فلا حاجة إلى هذه الاغتسالات، ويمكن أنهم كانوا يستحبونها لأنهم في ذلك الوقت في شدة حر لا توجد معهم مكيفات ولا مراوح كهربائية، فيشق عليهم الوقوف في شدة الشمس، فيحتاجون إلى أن يغتسلوا ليخففوا الحرارة عليهم، فهذا هو السبب، وهو أن تلك الأماكن كانت شديدة الحر، فمنى ومزدلفة وعرفة الحر فيها شديد، والشمس فيها حارة وقت الصيف، وحتى في وقت الشتاء، فلذلك أكثر الأغسال المستحبة للمشاعر.

والحاصل أنهم يحرمون في يوم التروية كإحرامهم عند الميقات، فقبل الإحرام يصلي ركعتين إذا لم يكن في وقت نهي، وينوي بها سنة وضوء أو نحو ذلك، ويسن أن يحرموا في الضحى حتى تأتي عليهم الصلوات الخمس بمنى وهم محرمون.