للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاعتقاد الصحيح في المكاسب والتجارات]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق نقله لكلام أبي عبد الله بن خفيف: [ومما نعتقده: أن الله تعالى أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد، لا الكسب والتجارات، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة، جائز إلى يوم القيامة.

وإن مما نعتقده أن الله تعالى لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا إنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض.

ومما نعتقده: أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط؛ جاز إلا من داخل الظلمة، ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك، فالسؤال والتوقي، كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه، فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة، والناس طبقات، والدين: الحنيفية السمحة] .

هذا المقطع فيه بيان ما يتعقد في المكاسب والتجارات، وأن الله تعالى أباحها، ولا شك في هذا، والأصل في المعاملات الحل، دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، ومصادر التحريم في المعاملات ثلاثة: الربا والغرر والظلم، ويضاف أمر رابع وهو: كل ما أدى إلى هذه الأمور من المعاملات فإنه يمنع؛ لأنه وسيلة إلى المحرم، ووسيلة المحرم محرمة، وإنما ذكر الشيخ رحمه الله هذا؛ ليرد على بعض الصوفية الذين يتورعون عن أكل أموال الناس من سبيل مشروع مباح، ويعتذرون في التنزه عن أموال الناس بأنها محرمة، أو أنه امتنع الحلال في هذه الأعصار؛ لكثرة المعاملات المحرمة في زمانهم، وفي زماننا من باب أولى.

لكن هذا الكلام غير صحيح، فالأصل في أموال الناس الإباحة، أي: أنها مباحة ويباح التعامل معهم فيها بالتجارات وغيرها، ولكن إذا علم أن المال الفلاني محرم، كأن يكون قد غصبه أو سرقه، فحينئذٍ لا يجوز التعامل معه لعلمه بتحريم هذا المال.

وأما من اشتبه ماله فاختلط فيه الحلال والحرام فالأصل إباحة معاملته إلا إذا علم أن المعاملة تقوم على محرم، كأن يدفع إليه عوضاً من مال يعلم أنه كسبه من محرم، فهنا يمتنع من أخذه، على أن بعض أهل العلم كما ذكر الشيخ رحمه الله أجاز معاملتهم حتى فيما علم أنهم كسبوه من محرم؛ لأن إثم كسب المحرم عليهم، وأما هذا فقد أخذه من طريق مباح قال الله سبحانه وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:٢٩] ، فلم يتشرط في التجارات وفي سائر المعاوضات إلا أن تكون على التراضي، وذكر هذا في هذه الرسالة استطراداً، وإلا فليس له صلة في باب الاعتقاد، إلا في الرد على من اعتقد تحريم المكاسب، فهو يبين له أنه مخطئ.

<<  <  ج: ص:  >  >>