للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الدليل العقلي في إثبات معية الله العامة لخلقه دون الاختلاط بهم]

ثم أتى بالدليل العقلي في قوله: (بل القمر) ويمكن أن نقول: إنه دليل عقلي ودليل حسي في نفس الوقت؛ لأنه دليل محسوس.

قال: (بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته -أي: السماوية- وهو موضوع في السماء) يعني: في العلو، وإلا فإنه دون السماء الدنيا، فإن هذه الكواكب السيارة دون السماء الدنيا فيما يظهر، أما القمر فيقين أنه دون السماء الدنيا.

فقوله رحمه الله: (وهو موضوع في السماء) أي: في العلو، ثم قال في بيان وجه التنظير بين علو الله عز وجل وعلو القمر: (وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان) ، فهل كون القمر مع المسافر وغير المسافر اقتضى أن يكون مخالطاً للمسافرين، ومخالطاً للناس؟ الجواب: لا.

فإذا كان كذلك وأدركته عقولنا، وقبلته أذهاننا فيما يتعلق بمخلوق من أصغر مخلوقات الله السماوية، فكيف به جل وعلا وهو الكبير المتعال؟! فلا يلزم من إثبات معيته مخالطته لخلقه، وهذا برهان واضح، ودليل ساطع، يقطع حجة أولئك الذين قالوا: يلزم من إثبات معية الله لخلقه أن يكون مخالطاً لهم، وهل في هذا التنظير محذور شرعي؟ الجواب: لا.

ليس فيه محذور شرعي، وذلك أن التنظير في المعنى لا في كل ما يلزم من المثال، إنما التنظير من بعض الوجوه، وإلا فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وقد جاء في بعض روايات حديث: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله ربه ليس بينه وبينه ترجمان، أن أبا رزين العقيلي قال: يا رسول الله! كيف وهو واحد ونحن الجميع؟ فقال: سأذكر لك مثل ذلك بآية من آيات الله وهي القمر، فكلكم يراه مخلياً به -يعني: ليس بينه وبينه أحد-) فهذا تمثيل وتنظير نبوي وقياس عقلي في إثبات هذا المعنى الذي جاء به النص.

المهم أن الدليل واضح وساطع، وهو آخر ما ذكره المؤلف رحمه الله من الأدلة على عدم لزوم المعية لمخالطة الله عز وجل لعباده، وهناك دليل لم يذكره المؤلف رحمه الله، وقد ذكره في غير موضع من كلامه في الفتاوى وفي كتب عديدة وهو: أن المعية في كلام الله عز وجل جاءت على نوعين: معية عامة.

ومعية خاصة.

المعية العامة في مثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤] ، هذه المعية العامة.

والمعية الخاصة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (لا تحزن إن الله معنا) ، وأيهما أكثر وروداً في كتاب الله، الإخبار بالمعية العامة أو المعية الخاصة؟ الإخبار بالمعية الخاصة، ومن لازم إثبات المعية الخاصة أن يكون فيها من المعنى ما ليس في المعية العامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ أبي بكر: (لا تحزن إن الله معنا) ، هل هذه المعية التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثابتة لخصومهم الذين كانوا يلاحقونهما؟ الجواب: لا.

فلما ثبتت المعية الخاصة دل ذلك على أن المعية العامة لا تقتضي المخالطة؛ لأنها لو كانت تقتضي المخالطة لانتفى التخصيص، وهذا دليل واضح بين يدل على أن المعية العامة الثابتة في كلام الله عز وجل لا تقتضي المخالطة ولا الممازجة، بل هو جل وعلا بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه ولا هو في شيء من خلقه سبحانه وتعالى، هذا خامس الأدلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في إبطال هذا المعنى الذي توهمه المبطلون في هذه الصفة التي أخبر بها سبحانه وتعالى عن نفسه.

ثم قال رحمه الله: (وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان) وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) هذا فيه إثبات المعية الخاصة أم العامة؟ المعية العامة؛ لأنه مصاحب للمسافر، ومصاحب لمن خلفه؛ ولذا قال: (أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) ، والأهل هل هم معه أو خلف ظهره؟ خلف ظهره، وهذا من الأدلة الدالة على ثبوت المعية العامة، وإن كان فيها نوع تخصيص؛ لأن قوله: (وأنت الخليفة في الأهل) كأنه يقول: احفظهم، (وأنت الصاحب في السفر) كأنه يقول: احفظني، أو أعني على سفري، لكن مفاد الأمرين هو: ثبوت المعية العامة له سبحانه وتعالى، فلا يعارض كونه مع المسافر أن يكون مع غيره؛ لأن معيته لا تقتضي الممازجة والمخالطة.

ثم قال رحمه الله: (وهو سبحانه فوق العرش) من أين هذا؟ من الآيات التي مرت معنا في إثبات علوه سبحانه وتعالى، وهو صريح حديث الأوعال الذي قال فيه: (والله فوق العرش) .

<<  <  ج: ص:  >  >>