للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إمساك أهل السنة عما شجر بين الصحابة]

قال رحمه الله: [ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهم خير القرون) وأن: (المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم) ، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله] .

يقول رحمه الله: (ويمسكون) أي: أهل السنة والجماعة (يمسكون عما شجر بين الصحابة) .

شجر يعني: اختلف وتنازع، والمقصود أنهم يمسكون عن الخلاف الواقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل المراد الخلاف في المسائل العلمية؟ لا، إنما المراد الخلاف المشهور الذي عرف بالفتنة بين الصحابة، الفتنة التي وقعت بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وقعت الفتنة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق مع علي رضي الله عنه، وفريق مع معاوية، وجرى بينهم قتال في الجمل وصفين، وهذا هو المراد بقول المؤلف رحمه الله: [ويمسكون عما شجر بين الصحابة] أي: من الخلاف والفتنة.

والإمساك هو: عدم الخوض لا بالفكر، ولا بالبحث، ولا بالطلب، ولا بالقول، فهو إمساك كلي عما وقع بين الصحابة؛ والسبب في هذا أنه لا فائدة في هذا البحث؛ ولذلك هذا المنهج ليس خاصاً فيما شجر بين الصحابة فقط بل شيخ الإسلام رحمه الله يقول: كل ما شجر بين أهل الإسلام مما لم يطلع عليه الإنسان لا يجوز له أن يتكلم فيه؛ لأنه إن كان مصيباً فلا فائدة في الحديث، وإن كان مخطئاً فقد بغى على القوم، وتكلم بجهل.

وهذه القاعدة لو أعملها الإنسان فيما يقع من خلافات لاستراح قلبه، واشتغل بما ينفعه؛ لأن الدخول في مثل هذه الأمور يوغر الصدور، ويعمي عن الخير، ولو لم يكن فيه مذمة ولا سوء إلا أنه يشغل عن العلم النافع؛ لكان كافياً في الانصراف عنه والبعد؛ لأنه علم لا ينفع، أولئك قوم مضوا وهم في علم عليم خبير لا تخفى عليه خافية، والله جل وعلا يقضي بينهم، ولا مصلحة لنا ولا نفع في الخوض.

ولذلك الذي يقول: أنا أريد أن أبحث حتى أستبين الحق، نقول له: يا أخي! لم يبق من الحق ما تحتاج إلى استبانته إلا هذه القضية! القضايا التي يحتاج الإنسان إلى أن يصل فيها إلى الحق كثيرة: في الأعمال والعقائد، فلينصرف الإنسان إلى ما ينفعه من العلم، وليعلم أن هذا من العلم الذي لا ينفع، ثم إنه من جهة ثانية قل من يخوض في هذا الأمر إلا ويقع في قلبه بغض لبعض الصحابة، وهذا في حد ذاته لوثة وسيئة يجب على المؤمن أن يطهر قلبه منها، فإن القلب إذا عمره بغض الصالحين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوشك أن يهلك، وأن ينصرف عن خير كثير، أقله إنه إذا ورد الحديث عن طريق هذا الصحابي الذي صار في قلبه عليه شيء لم يرفع به رأساً، هذا أقل ما يكون.

ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: قل من خاض في هذا الأمر إلا وصار في قلبه من البغض والذم ما هو من قبيل المعاصي يعني: لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يحذر من هذا غاية الحذر، يحذر منه قراءةً، وكتابةً، وسماعاً، حتى الأشرطة التي تعرض فيها الفتنة يجب على المؤمن ألا يسمعها، بل يحرم عليه أن يسمعها؛ لأنها توغر صدره، وتشغله بما لا فائدة فيه.

هذا فضلاً عن أن هذا الصراط مخالف لطريق أهل السنة والجماعة، هل رأيتم عالماً من أهل السنة والجماعة حرر هذه المسألة وبحثها، وكتب فيها، وألف؟ لم نعرف ذلك في سلف الأمة، ولا في المتأخرين ممن سار على طريق السلف الصالح، وهم أحرص منا على الحق وإظهاره.

ثم إن قول المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يمسكون عما شجر بين الصحابة ليس من لازمه عدم ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى، فإن أهل السنة والجماعة مع إمساكهم عما شجر بين الصحابة يعتقدون أن الفئة المحقة هي فئة علي رضي الله عنه، وأن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، وهذا ليس من الخوض، ولا مما أمسك عنه أهل السنة والجماعة، بل أهل السنة الجماعة مع إمساكهم عما شجر بين الصحابة يقولون: علي ومن معه أولى بالحق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في عمار: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) ، وعمار كان مع علي، وقتل في معسكره، وهذا من الدلائل على أن علياً رضي الله عنه كان هو المحق، وأن معاوية ومن معه كانوا هم الفئة الباغية.

لكن اعلم أنه يجب صون اللسان عن أكثر من هذا، فلا يجوز للمؤمن أن ينال من معسكر هؤلاء أو معسكر هؤلاء، ولا يجوز له أيضاً أن يعتقد أن كل واحد في معسكر هؤلاء أو معسكر هؤلاء إما مصيب أو مجتهد، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يكون في أحد العسكرين من هو مريد للدنيا أو صاحب هوى لكن الكلام عن المجموع، فينبغي صون اللسان وحفظه عما وقع بينهم رضي الله عنهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>