للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة الإخلاص وما تضمنته من قواعد العقائد]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١-٤] ، وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥] ؛ ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح] .

آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله من القواعد في هذه المقدمة قوله: [وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات] وبينا النفي الوارد في كتاب الله عز وجل والإثبات، وقلنا: إن الأصل فيما وصف الله به نفسه الإثبات، فهذا الأصل، حتى النفي الذي وصف الله به نفسه المقصود به والمراد منه الإثبات، وهذه هي طريقة القرآن، وهي الطريق التي سلكها سلف الأمة، وسار عليها من سلك منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وقابل هذا الطريق وخالفه الذين وصفوا الله عز وجل بالنفي تفصيلاً، وبالإثبات إجمالاً، وهؤلاء هم المتكلمون، فالمطالع ما ألفه المتكلمون من أهل البدع في هذا الباب يجد أنهم يفصلون ويطنبون في السلوب والنفي، ويجملون في الإثبات، حتى إن بعضهم لا يثبت لله عز وجل وصفاً إلا وصف الوجود.

ولا شك أن هذا في غاية المضادة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بينه القرآن؛ فإن القرآن لم يأت بالنفي إلا لأجل الإثبات، ولم يأت نفي مقصود لذاته؛ ولذلك تجد أن هؤلاء المفتونين بالكلام يجعلون التنزيه والتقديس فيما يصفون الله به سبحانه وتعالى من السلوب، فتجد أحدهم يقول: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يرى، ولا يشار إليه، ولا يقرب منه شيء، ولا يقرب من شيء، وما إلى ذلك من النفي، وهم يريدون بهذا النفي -زعموا- التنزيه والتعظيم، لكن أي تنزيه وتعظيم في قلب العبد إذا اعتقد مثل هذا الكلام الذي لا يحصل منه إلا النفي؟! قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:٢٢-٢٣] إلى آخر ما ذكر الله من أسمائه وصفاته في هذا الموضع وفي غيره، فمن أي الطريقين يحصل للعبد تعظيم الله عز وجل؟ فذاك لا يحصل به إلا الجفاء والغلظة للقلب والجهل بالرب، وأما هذا الطريق -طريق القرآن- فهو الذي يحصل به غاية العلم بالله سبحانه وتعالى، العلم الذي يستطيعه المخلوق؛ لأن العليم الخبير أعطانا وأظهر لنا من العلم المتعلق بذاته ما تحيط به عقولنا، وما تستطيع أن تدركه أذهاننا، والإحاطة التي ذكرناها ليست الإحاطة التامة، إنما هي إحاطة الإدراك، وإلا فالكيفيات أمرها إلى الله عز وجل لا نحيط بها، كما تقدم بيانه في الشرح.

ثم بعد أن بين الشيخ رحمه الله هذا، وبين أن أهل السنة والجماعة ملتزمون بهذا الصراط، سالكون هذا السبيل لا يحيدون عنه ولا يميلون، بين أن هذا الصراط هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبهذا تعلم أن ما جاءت به الرسل فيما يتعلق بالخبر عن الله عز وجل واحد، فلم تختلف الرسل فيما أخبرت به عن الله عز وجل؛ لأن الرب الذي بعث أولهم هو الذي بعث آخرهم، فالموصوف والمدعو إليه في جميع الرسالات هو رب واحد، هو رب العالمين الذي جاء القرآن ببيان أوصافه والخبر عنه على أكمل وجه.

ثم بعد أن فرغ من هذا الفصل أتى بفصل بين فيه بعض ما في كتاب الله عز وجل مما يتعلق بالخبر عنه سبحانه وتعالى، تطبيقاً للقواعد المتقدمة واستدلالاً لها، فقال رحمه الله: [وقد دخل في هذه الجملة] ، والمشار إليه هو ما تقدم من القواعد المتعلقة بالأسماء والصفات.

وقد تقدم لنا في كلامه رحمه الله قاعدتان: القاعدة الأولى: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

الثانية: أنه سبحانه وتعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات، فننظر إلى ما ساقه رحمه الله من الأمثلة، وما أدرجه تحت تلك الجملة.

فقال: [وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص] ، وسورة الإخلاص هي سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ، والاسم المشهور في السنة لهذه السورة هو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ، سميت بأول ما جاء فيها، وورد اسم الإخلاص لهذه السورة في السنة أيضاً في جامع الترمذي، لكن الاسم المشهور الذي وردت به الأحاديث هو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ، وسميت بهذا الاسم لأنها أخلصت في الخبر عن الله عز وجل، هذا فيما يتعلق بمضمونها.

وأما ما يتعلق بمطلوبها فلأن من عمل بها، وقام بما تضمنته فإنه حقق الإخلاص، وهذه السورة لها شأن عظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بها صلاة النهار ويختتم بها صلاة الليل، فكان يقرأ بها في وتره، ويقرؤها في سنة الفجر في ركعتي الفجر، وفي ركعتي المغرب، وفي ركعتي الطواف، فكان يكررها صلى الله عليه وسلم في العديد من النوافل، وقد قال لأصحابه مرة: (احشدوا -أمرهم بالاجتماع- أقرأ عليكم ثلث القرآن، فلما احتشدوا واجتمعوا قرأ عليهم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ، ثم قال: ألا إنها تعدل ثلث القرآن) ، فجمعهم صلى الله عليه وسلم ليبين لهم صفة ربهم سبحانه وتعالى، وفضل ما جاء في هذه السورة.

قال المؤلف رحمه الله: [في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن] .

أي: تعدل في الثواب والجزاء، ووجه كونها تعدل ثلث القرآن أن معاني القرآن ثلاثة: ثلث يتعلق بالله عز وجل، وثلث يتعلق بالأحكام، وثلث يتعلق بالقصص والأخبار، وهذه السورة تضمنت الثلث المتعلق بالخبر عن الله وعن التوحيد، وذكرنا أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب والجزاء، لكن هل تعدل ثلث القرآن في الإجزاء والاكتفاء؟ الجواب: لا؛ ولذلك لو قرأ الإنسان هذه السورة في ركعة من صلاته ثلاث مرات فإنها تعدل القرآن في الثواب، لكن هل تكفيه عن قراءة الفاتحة؟ لا تكفيه عن قراءة الفاتحة؛ لأنها تعدل ثلث القرآن في الثواب لا في الإجزاء.

قال رحمه الله: [تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١-٤]] .

افتتحت هذه السورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الذاتي، والقول الإعلامي الإخباري التبليغي؛ وذلك لأهمية ما تضمنته هذه السورة، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ القرآن كله، لكن حيثما رأيت القرآن أمر الله عز وجل نبيه بأن يقول، فذاك لأن المضمون بعد القول أمر يحتاج إلى عناية وانتباه.

<<  <  ج: ص:  >  >>