للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سبب كونها أعظم آية]

ثم بعد ذلك قال رحمه الله: [وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول] وذكر آية الكرسي.

أما كون آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل فذاك ثبت به الحديث في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب فقال له: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال أبي رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، ثم لما كرر عليه قال: آية الكرسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليهنك العلم أبا المنذر) إقراراً وتهنئة منه أن توصل إلى معرفة ذلك بنفسه، والبشارة له بالعلم، وهذا يفيد أن كل من تأمل وتدبر كتاب الله عز وجل فإنه اشتغل بتحصيل العلم؛ لأن أبياً لم يحصل على ذلك بنقل، إنما حصله بنظر وتأمل وتدبر فيما يحفظه ويتلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم آية في كتاب الله، وهذا من حيث النقل، أما من حيث النظر فإنه يقال: لماذا كانت هذه الآية أعظم آية في كتاب الله؟ فالجواب: لأنها تضمنت من أوصاف الله عز وجل ما لم تتضمنه أو تشتمل عليه أي آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ففيها من الأوصاف وعظيم الصفات والأخبار عن الله جل وعلا ما ليس في غيرها من آيات الكتاب المبين، ويتبين هذا باستعراض ما تضمنته هذه الآية الكريمة.

قال الله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] افتتح هذه الآية الكريمة بأعظم مطلوب وأجل مقصود وغاية الوجود وهو التوحيد، توحيد العبادة له سبحانه وتعالى دون غيره، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، وهذا أول ما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية، وهو وصف بنفي، فنفى سبحانه وتعالى الإلهية عن غيره لانفراده بها سبحانه وتعالى، فهذا أول نفي تضمنته هذه الآية، وهل هو نفي مقصود لذاته أو مقصود لغيره؟ مقصود لغيره، وهو إثبات الكمال له سبحانه وتعالى بهذه الصفة، وهي صفة الإلهية.

ثم قال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} والحي القيوم اسمان من أسماء الله عز وجل، يثبت منهما للرب سبحانه وتعالى وصفان: وصف الحياة ووصف القيومية.

واعلم أن جماعة من العلماء قالوا: إن الاسم الأعظم هو مجموع هذين الاسمين (الحي القيوم) ، وقد ورد في ذلك أثر وحديث، ولا غرو ولا عجب أن يكون هذان الاسمان هما الاسم الأعظم، وذلك لأن جميع ما وصف الله به نفسه وسمى به نفسه يرجع من حيث المعنى إلى هذين الاسمين، فمدار جميع الأوصاف على مضمون هذين الوصفين، أشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله فقال: وله الحياة كمالها ولأجل ذا ما للممات عليه من سلطان وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان يعني: المتقدمين، وهما الحياة والقيومية، واعلم أن صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين في الجملة: صفات ذات، وصفات فعل، أي: صفات ذاتية لازمة تختص به، وصفات فعلية تقوم به سبحانه وتعالى وتتعلق بغيره، وتتعدى إلى غيره، فجميع صفات الذات ترجع إلى اسمه الحي، وجميع صفات الفعل ترجع إلى اسمه القيوم سبحانه وتعالى، وبهذا يصح ما قاله رحمه الله: ومدارها -أي: صفات الله سبحانه وتعالى- الوصفان، فصفات الذات ترجع إلى كونه الحي، وصفات الفعل ترجع إلى كونه القيوم سبحانه وتعالى.

وهذان الوصفان ثبوتيان، ولإثبات كمال اتصاف الله بهما جاء النفي في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، والسنة مقدمة النوم، فلا يأخذه جل وعلا نوم ولا مقدماته؛ لأن النوم يلزم منه نقص في الحياة، فالنوم أخو الموت، ونقص في القيومية؛ لأنه إذا نام فمن يقوم بشئون الخلق؟ ولذلك نفى هذين الأمرين السنة والنوم لثبوت كمال الوصفين المتقدمين، وهما الحياة والقيومية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) ، فيستحيل ويمتنع النوم عن الرب جل وعلا لكمال حياته وقيوميته.

فعرفنا أن ثاني سلب ونفي في هذه الآية هو قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] ، وأنه يفيد إثبات كمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>