للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علمه تعالى، والنصوص الواردة فيه]

ثم قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:٣] ، وهذا لتأكيد الإحاطة، وفيه إثبات صفة العلم، وصفة العلم صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى، كصفة الحياة، وكصفة القيومية، وإن كانت صفة القيومية ترجع إليها صفات الفعل لكن هو قيوم سبحانه وتعالى أزلاً وأبداً، قائم بنفسه ومقيم لغيره من خلقه، فالعلم صفة ذاتية، وذكرنا في السابق أن الصفات تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية، والذاتية تنقسم إلى قسمين: صفات لازمة، وصفات متعدية، فالصفات اللازمة كصفة الحياة، والصفات المتعدية هي أكثر ما ذكر الله عز وجل من صفاته، كالسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، والكلام فكلها متعدية، وكذلك الصفات الفعلية تنقسم هذا الانقسام، فمنها ما هو لازم، ومنها ما هو متعدٍ، فمن اللازم في الصفات الفعلية الاستواء والمجيء والإتيان، وأما المتعدي فكالرزق والإحياء والإماتة.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات هذه الصفة لله عز وجل -صفة العلم- قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:٢] وفي هذه الآية إثبات صفتين لله سبحانه وتعالى: صفة العلم وصفة الحكمة، والعلم قد تقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:٣] .

واعلم أن علم الله سبحانه وتعالى يتعلق بكل شيء، ولذلك جاء متعلقاً بجميع الأشياء في قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:٣] ، وقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:٧] ، وقال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:٩٨] أي: وسع علمه كل شيء، فعلم الله سبحانه وتعالى يتعلق -من حيث الزمن- بالماضي والمستقبل والحاضر، ومن حيث الأشياء يتعلق بالممكنات والمعدومات والممتنعات، ويتعلق علمه سبحانه وتعالى بفعله وبفعل غيره، فعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء، ولبيان هذا ذكر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:٢] ، (ما يلج في الأرض) أي: ما يدخل فيها، (وما يخرج منها) من النبات وغيره، (وما ينزل من السماء) أي: من الملائكة والمطر والوحي وغير ذلك، (وما يعرج فيها) أي: ما يصعد إليها من الملائكة، ومن أعمال العباد وغير ذلك مما لا نعلمه، ولبيان تفصيل علم الله عز وجل وأنه أحاط بالكليات والجزئيات قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال في هذا: [وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:٥٩]] ، و (مفاتح) : جمع مفتح، وهو آلة فتح المغلق كالمفتاح، ولكن (المفتح) أفصح كما قال بعضهم، والغيب كل ما خفي على الإنسان ولم يدركه، سواء أكان غيباً كلياً أم غيباً جزئياً، فالغيب الكلي يكون في المستقبلات كعلم الساعة، والغيب الجزئي النسبي هو ما يعلمه غيرك ويخفى عليك، ومفاتح الغيب هي التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤] ، وهكذا بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح حيث قال: (مفاتح الغيب خمسة) ، وبينها بهذه الآية.

قال تعالى: {لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ، فبعد أن بين أن مفاتح الغيب عنده نفى علمها عن غيره، فقال: {لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ، وبين شمول علمه فقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} ، وهذا لبيان إحاطة علمه لما في الجو؛ لأنه ذكر البر والبحر، ثم ذكر الجو في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} ؛ لأن الأوراق الغالب فيها أن تكون في الجو.

قالت تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} وهذا ليبين أن علمه يشمل ما خفي واندثر في باطن الأرض، قال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} ، وهذا يعم كل شيء، والمخلوق لا يخلو أن يكون رطباً أو يابساً من العاقلات ومن غير العاقلات، قال تعالى: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، فهو يعلم كل ذلك، وكل ذلك في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ، وهذا يدل على سعة علم الله سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، فما من حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بعلمه، فحركة الأشجار والأسماك في قاع المحيطات لا تكون إلا بعلمه جل وعلا، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، قال سبحانه وتعالى في بيان اتصافه بهذه الصفة: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر:١١] فقوله تعالى: ((وما تحمل من أنثى)) يصدق على كل أنثى من البشر وغيرهم، (وَلا تَضَعُ) يعني: ولا تضع ما في بطنها (إِلاَّ بِعِلْمِهِ) يعني: إلا وذلك بعلم منه سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة والملابسة، أي أن ذلك حاصل بعلم منه سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:١٢]] .

هذا أيضاً فيه إثبات سعة علمه سبحانه وتعالى، وأن علمه محيط بكل شيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>