للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَحْشَر إِيجَابا قَوِيا، وَيفْسد الارتفاقات الصَّالِحَة إفسادا قَوِيا، وَيكون من الْفطْرَة على الطّرف الْمُخَالف جدا.

وَالصَّغِيرَة مَا كَانَ مَظَنَّة لبَعض ذَلِك، أَو مفضيا إِلَيْهِ فِي الْأَكْثَر أَو يُوجب بعض ذَلِك من وَجه، وَلَا يُوجِبهُ من وَجه، كمن ينْفق فِي سَبِيل الله، وَأَهله جِيَاع، فَيدْفَع رذيلة الْبُخْل، وَيفْسد تَدْبِير الْمنزل.

وَأما بِحَسب الشَّرَائِع الْخَاصَّة، فَمَا نصت الشَّرِيعَة على تَحْرِيمه أَو أَو عد الشَّارِع عَلَيْهِ بالنَّار، أَو شرع عَلَيْهِ حدا، أَو سمى مرتكبة كَافِرًا خَارِجا من الْملَّة إبانة لقبحه وتغليظا لأَمره، فَهُوَ كَبِيرَة، وَرُبمَا يكون شَيْء صَغِيرَة

بِحَسب حِكْمَة الْبر وَالْإِثْم، كَبِيرَة بِحَسب الشَّرِيعَة، وَذَلِكَ أَن الْملَّة الْجَاهِلِيَّة رُبمَا ارتكبت شَيْئا حَتَّى فَشَا الرَّسْم بِهِ فيهم لَا يخرج مِنْهُم إِلَّا أَن تتقطع قُلُوبهم، ثمَّ جَاءَ الشَّرْع ناهيا عَنهُ، فَحصل مِنْهُم لجاج ومكابرة، وَحصل من الشَّرْع تَغْلِيظ وتهديد بِحَسب ذَلِك حَتَّى صَار ارتكابها كالمناوأة الشَّدِيدَة للملة، وَلَا يَتَأَتَّى الْإِقْدَام عَليّ مثله إِلَّا من كل مارد متمرد لَا يستحي من الله وَلَا من النَّاس، فَكتب كَبِيرَة عِنْد ذَلِك.

وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن نؤخر الْكَلَام فِي الْكَبَائِر بِحَسب الشَّرِيعَة إِلَى الْقسم الثَّانِي من هَذَا الْكتاب لِأَن ذَلِك مَوْضِعه، وننبه على مفاسد الْكَبَائِر بِحَسب حِكْمَة الْبر والاثم هَهُنَا كَمَا فعلنَا فِي أَنْوَاع الْبر نَحوا من ذَلِك.

وَقد اخْتلف النَّاس فِي الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ العَاصِي عَلَيْهَا، وَلم يتب هَل يجوز أَن يعْفُو الله عَنهُ أَولا؟ وَجَاء كل فرقة بأدلة من الْكتاب وَالسّنة، وَحل الِاخْتِلَاف عِنْدِي أَن أَفعَال الله تَعَالَى على وَجْهَيْن: مِنْهَا الْجَارِيَة على الْعَادة المستمرة، وَمِنْهَا الخارقة للْعَادَة، والقضايا الَّتِي يتَكَلَّم بهَا النَّاس موجهة بجهتين: إِحْدَاهمَا فِي الْعَادة: وَالثَّانيَِة مُطلقًا، وَشرط التَّنَاقُض اتِّحَاد الْجِهَة مثل مَا قَرَّرَهُ المنطقيون فِي القضايا الموجهة، وَقد تحذف الْجِهَة فَيجب اتِّبَاع الْقَرَائِن، فقولنا كل من تنَاول السم مَاتَ مَعْنَاهُ بِحَسب الْعَادة المستمرة، وَقَوْلنَا لَيْسَ كل من تنَاول السم مَاتَ مَعْنَاهُ بِحَسب خرق الْعَادة، فَلَا تنَاقض،

وكما أَن لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا أفعالا خارقة وأفعالا جَارِيَة على الْعَادة، فَكَذَلِك فِي الْمعَاد أَفعَال خارقة وعادية، أما الْعَادة المستمرة فَإِن يُعَاقب العَاصِي إِذا مَاتَ من غير تَوْبَة زَمَانا طَويلا، وَقد تخرق الْعَادة وَكَذَلِكَ حَال حُقُوق الْعباد، وَأما خُلُود صَاحب الْكَبِيرَة فِي الْعَذَاب، فَلَيْسَ بِصَحِيح وَلَيْسَ من حِكْمَة الله أَن يفعل بِصَاحِب الْكَبِيرَة مثل مَا يفعل يَا الْكَافِر سَوَاء وَالله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>