للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأخروية، فَلَا ينزل معرفَة تفاصيل النعم ورؤية فيضانها من الْمُنعم جلّ مجده من الدُّعَاء المستجاب فِي قرع بَاب الْجُود، وَلَا يتم الشُّكْر حَتَّى يتَنَبَّه بعجيب صنع الله بِهِ فِيمَا مضى من عمره كَمَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي انْصِرَافه من حجَّته الَّتِي لم يحجّ بعْدهَا: الْحَمد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، يُعْطي من شَاءَ مَا يَشَاء لقد كنت بِهَذَا الْوَادي - يَعْنِي ضجنَان - أرعى إبِلا للخطاب، وَكَانَ فظا غليظا يتعبني إِذا عملت ويضربني إِذا قصرت، وَقد أَصبَحت، وأمسيت، وَلَيْسَ بيني وَبَين الله أحد أخشاه.

وَمِنْهَا التَّوَكُّل، وَهُوَ أَن يغلب عَلَيْهِ الْيَقِين حَتَّى يفتر سَعْيه فِي جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار من قبل الْأَسْبَاب وَلَكِن يمشي فِي مَا سنه الله تَعَالَى على عباده من الاكساب من غير اعْتِمَاد عَلَيْهَا.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدْخل الْجنَّة من أمتِي سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب هم الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ ".

أَقُول إِنَّمَا وَصفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا إعلاما بِأَن أثر التَّوَكُّل ترك الْأَسْبَاب الَّتِي نهى الشَّرْع عَنْهَا لَا ترك الْأَسْبَاب الَّتِي سنّهَا الله تَعَالَى بعباده، وَإِنَّمَا دخولوا الْجنَّة من غير حِسَاب لِأَنَّهُ لما اسْتَقر فِي نُفُوسهم معنى التَّوَكُّل أورث ذَلِك معنى ينفض عَنْهَا سَبَبِيَّة الْأَعْمَال العاضة عَلَيْهَا من حَيْثُ إِنَّهُم أيقنوا بِأَن لَا مُؤثر فِي الْوُجُود إِلَّا الْقُدْرَة والوجوبية.

وَمِنْهَا الهيبة وَهِي أَن يستيقن بِعظم جلال الله حَتَّى يتلاشى فِي جنبه كَمَا قَالَ الصّديق إِذْ رأى طيرا وَاقعا على شَجَرَة فَقَالَ: طُوبَى لَك يَا طير يَا طير، وَالله لَوَدِدْت أَنِّي كنت مثلك تقع على الشّجر، وتأكل من الثَّمر، ثمَّ تطير،

وَلَيْسَ عَلَيْك حِسَاب وَلَا عَذَاب، وَالله لَوَدِدْت أَنِّي كنت شَجَرَة إِلَى جَانب الطَّرِيق مر عَليّ جمل، فأخذني، فَأَدْخلنِي فَاه، فَلَا كنى ثمَّ ازدردني، ثمَّ أخرجني بعرا، وَلم أكن بشرا.

وَمِنْهَا حسن الظَّن وَهُوَ معبر عَنهُ فِي لِسَان الصُّوفِيَّة بالأنس، وينشأ من مُلَاحظَة نعم الْحق وألطافه، كَمَا أَن الهيبة تنشأ من مُلَاحظَة نقم الْحق وسطواته. وَالْمُؤمن وَإِن كَانَ بنظره الاعتقادي يجمع الْخَوْف والرجاء لَكِن بِحَالَة ومقاومة رُبمَا يغلب عَلَيْهِ الهيبة، وَرُبمَا يغلب عَلَيْهِ حسن الظَّن، كَمثل رجل قَائِم على شفا الْبِئْر العميقة ترتعد فرائصه وَإِن كَانَ عقله لَا يُوجب خوفًا، وكما أَن حَدِيث النَّفس بِالنعَم الهنيئة يفرح الْإِنْسَان وَإِن كَانَ عقله لَا يُوجب فَرحا، وَلَكِن تشرب الْوَهم فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ خوفًا وفرحا.

<<  <  ج: ص:  >  >>