للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الثالثة: حرمة موالاة من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم]

ثم قال رحمه الله في بيان المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ فلا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ولو كان أقرب قريب] .

هذا من أصول الإيمان، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وذلك أنه إذا وقر الإيمان في قلب العبد أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله سبحانه وتعالى؛ والله سبحانه وتعالى يحب التوحيد وأهله، ويبغض الشرك والكفر وأهله، فمن أحب أهل الشرك ووادّهم وتقرّب منهم فإنه قد حادّ الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:٥١] ، والموالاة مأخوذة في الأصل من: (ولي الشيء) : إذا قرب منه والقرب يكون في الأصل بالقلب، ثم يتبعه قرب القول والعمل، والمنهي عنه هنا هو قرب القلب في المودة والمحبة، وقرب القول والعمل، {إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:٢٨] ، وإلا من استثناهم الله عز وجل في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:٨] ؛ لأن هذا من جملة الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء.

فالبر والقسط مع الكفار ليس من الموادّة والموالاة التي حرمت، وهذه مسألة مهمة يجب التنبه لها؛ لأن المنهي عنه هو موالاة القلب لا البر والإحسان فيمن استثناهم الله عز وجل في هذه الآية.

ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال على هذه المسألة: [والدليل -أي: الدليل على أنه لا يجوز مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أقرب قريبٍ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المجادلة:٢٢] ، وافتتاح الآية بهذا النفي فيه التشويق إلى معرفة ما تضمنه قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:٢٢] ، والمحادّة هي الممانعة والمضادة لله جل وعلا ولرسوله، {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} أي: ولو كان أولئك المحادون آبَاءَهُمْ، أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وهؤلاء متفاوتون في الصلة، إلا أنهم من أقرب من يتصل بهم الإنسان، وبدأ بمراتبهم الأقرب فالأقرب.

وقوله تعالى: (أولئك) المشار إليه هم الذين لا يوادّون هؤلاء، إذا كانوا محادّين لله ورسوله، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أي: ثبت ورسخ في قلوبهم الإيمان، {وَأَيَّدَهُمْ} أي: قواهم وأمدهم.

{بِرُوحٍ مِنْهُ} أي: بوحيه سبحانه وتعالى الذي به تثبت قلوبهم، وبعونه الذي يستطيعون به مواجهة هؤلاء.

فقوله تعالى: {بِرُوحٍ مِنْهُ} يشمل المدد بالوحي من الكتاب والسنة، ويشمل أيضاً العون والتأييد والتقوية والنصر، وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المجادلة:٢٢] ، هذا جزاؤهم؛ لأنهم قدموا محاب الله على ما تقتضيه طبائعهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة:٢٢] ، فأضافهم إليه تشريفاً وتكريماً وإجلالاً لفعلهم، وكل ما يضيفه الله سبحانه وتعالى لنفسه مما ليس من صفاته إنما المقصود به التشريف والتكريم، وقد يضاف الشيء إضافة خلقٍ، ولكن هذا قليل.

قال تعالى: {ألا إن حزب الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، والفلاح أجمع كلمةٍ للخير في لسان العرب، وهي حصول المطلوب والأمن من المرهوب، فيحصل لهؤلاء مطلوبهم ويأمنون مما يرهبونه ويخافونه في الدنيا والآخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>