للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعريف الولاية ومدارها]

قال رحمه الله تعالى: [بيان الله سبحانه لأولياء الله] .

أولياء: جمع ولي.

والولي: مأخوذ من الولاية، والولاية: مصدر (وُلَيِ) ، وهي بمعنى القرب، تقول: وَلِيَ كذا كذا: أي: قرب منه.

وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: المحبة، والنصرة، وقد أثبت الله جل وعلا في كتابه ولايته لبعض خلقه، فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:٢٥٧] ، فأثبت سبحانه وتعالى ولايته للمؤمنين، كما أن الله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له وليٌّ، لكن الولي المنفي غير الولي المثبت، فالولي المنفي مقيد؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:١١١] أي: لم يكن له وليٌّ يستنصر ويعتز ويتقوى به فولاية الله عز وجل لمن يتولاهم ليست عن حاجة، ولا عن افتقار، بل هو الغني الحميد جل وعلا، وإنما ولايته سبحانه وتعالى لمن يتولاه هي ولاية رحمة ومنة وفضيلة ومنحة منه جل وعلا وإكرامٍ لمن يتولاه، نسأل الله أن نكون منهم.

إذاً: الولاية المثبتة لله عز وجل هي غير الولاية المنفية.

والولاية على اختلاف مواردها تدور على معنيين: المحبة، والنصرة، ويقابل الولاية العداوة، وهي دائرة على البغضاء والكره، فأعداء الله هم من أبْغَضَهم سبحانه وتعالى وأبعدهم وكرههم جل وعلا، فالعداوة مبنية على الإبعاد والكره والبغض، والولاية مبنية على المحبة والنصرة، والله سبحانه وتعالى قد بين أوصاف أوليائه.

وقد لخص الشيخ رحمه الله هذه الأوصاف المذكورة في هذا المقطع القصير من كلامه رحمه الله، لكن من المهم أن نفرق بين أولياء الله وغيرهم، حتى لا يشتبه الأمر، فأولياء الله عز وجل لا يتميزون عن غيرهم بمظهر، بل هم كغيرهم من أهل الإسلام لا يتميزون عنهم بلباس ولا بهيئة، لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها، لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله، وبين غيرهم من الناس، فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟ قال رحمه الله تعالى في بيان ذلك: [ويكفي في هذا]-أي: في بيان الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان- آية في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] ، فقوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) هذا هو المعيار الفارق والميزان الدقيق لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله بالولاية هي أن يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) ، فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يكون معه من تقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف.

فالسمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أمرين: فيما فرض -وهذا في الدرجة الأولى-، وفيما ندب إليه من الأعمال، وهذا في الدرجة الثانية-، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، ثم بعد أن ذكر جزاء الأولياء وانتصار الله لهم قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل) ، وهذا طريق تحصيل الولاية، قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، فذكر الطريقين اللذين يحصل بهما ولاية الله عز وجل، وهذا تفصيل لما أجملته هذه الآية في قوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي) .

فالاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم يكون في الفرائض أولاً؛ لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالنوافل ثانياً.

ولذلك قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) ، وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه.

ثم قال رحمه الله تعالى: [وآية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] ، وهذا فيه الإشارة إلى معنى الولاية، وأنها دائرة على المحبة، فهناك قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران:٣١] ، وهنا قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، ثم ذكر أوصافهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فذكر ثلاثة أوصاف: الوصف الأول: (أذلةٍ على المؤمنين) ، فلا علو عندهم ولا استكبار ولا ارتفاع.

الوصف الثاني: (أعزةٍ على الكافرين) ، لا يذلون لهم؛ لأن معهم سبب العزة، وهو الإيمان بالله ورسوله.

الوصف الثالث: الجهاد في سبيل الله.

وهو شامل لجميع أنواع الجهاد، وأعلاها جهاد الكفار المعاندين لله ورسله، فهذا من أوصافهم، والجهاد لا يأخذ صورةً واحدة فقط، فلا يقتصر على الجهاد بالسيف والسنان، بل هناك جهاد آخر قد يكون أعظم منه، وهو جهاد العلم والبيان، فالذي يبلغ شريعة الله عز وجل وينصح الناس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو من المجاهدين الذين يدخلون في قوله تعالى في آية المائدة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فهذا يشمل جميع أنواع الجهاد.

وهذا تفصيل؛ لأن قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) فيه بيان مجمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن، وهنا فيه ذكر صفات خاصة وتخصيصها لعظيم أثرها في تحقيق وتحصيل الولاية.

ثم قال: [وآية في سورة يونس، وهي قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢] ، وهذا فيه البشارة لهم بانتفاء المخاوف والأحزان عنهم، فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} هذا فيما يستقبلون، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا فيما مضى.

والإنسان إنما يلحقه الأذى من خوف المستقبل، أو فوات الخير في الماضي، فإذا حصل له الأمن من هذين الأمرين كان من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهو في غاية الطمأنينة والسعادة.

ثم بين سبحانه وتعالى من هم أولياء الله فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣] الذين آمنوا بقلوبهم فصلحت قلوبهم واستقامت أفئدتهم، وكانوا يتقون في أعمالهم وجوارحهم.

والتقوى هنا هي فعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به وترك ما نهى عنه، وهذا وصف شامل يتميز به أولياء الله عن غيرهم.

ومما تقدم نعلم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب، ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة، ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ، أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوى الله، لقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣] .

قال رحمه الله: [ثم صار الأمر عند أكثر من يدّعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشريعة إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل] ، وهذا في وقته رحمه الله؛ حيث هجرت السنة، وتعصب الناس لما كانوا عليه من مذاهبَ وأقوالٍ، وآراء، وأصبح المتَّبِعُ للنبي صلى الله عليه وسلم غريباً بينهم.

ثم قال: [ومن تبعهم فليس منهم] أي: ومن تبع هؤلاء الذين استقاموا على الكتاب والسنة، فليس منهم، يعني: فليس من أولياء الله؛ لأنه إذا كان الداعي إلى الكتاب والسنة عند هؤلاء الذين تحدث الشيخ عنهم ليس من أولياء الله، فما هي حال غيرهم ممن هو تابع لهم؟ الجواب: أنه لا يكون من أولياء الله من باب أولى.

ثم قال رحمه الله تعالى: [ولابد من ترك الجهاد] .

هذا انتقال إلى تفصيل ما عليه أولئك الذين وصفهم رحمه الله ممن يدعون ولاية الرحمان وهم على خلاف ذلك، قال: [لابد من ترك الجهاد] ، وذكر الجهاد رحمه الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى جعل المجاهدين أولياءه، في قوله جل وعلا: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:٥٤] ، فخالفوا النص القرآني الدال على أن الجهاد في سبيل الله من أسباب تحصيل الولاية ومن أوصاف أولياء الرحمن، فلابد عندهم من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، والقرآن يدل على عكس هذا، وهو أن الجهاد من أوصاف أولياء الله سبحانه وتعالى.

ثم قال رحمه الله تعالى: [ولابد من ترك الإيمان أيضاً] .

وهذا لكون الإيمان قد جاء في القرآن أنه من أوصاف أولياء الله، كما في قوله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢-٦٣] .

ثم قال: [فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم] أي: من اتصف وحافظ على هذين الوصفين فليس من هؤلاء الأولياء المزعومين.

وهؤلاء هم في الحقيقة أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن؛ لأن أولياء الرحمن هم من وصفهم الله في كتابه، وأما هؤلاء فهم معاندون، معارضون، وكل من ادعى الولاية فلابد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن ادّعى الولاية أو أدُّعيت له الولاية -إذ قد لا يدعي الولاية لنفسه فيقول: إني ولي، لكن قد يزعم اتباعه أنه ولي- فلابد حينئذٍ أن نعرض حال هذا الرجل على هذه الموازين الدقيقة والمعايير الناطقة المميزة لأولياء الرحمان عن غيرهم، وبذلك يتبين هل هو من المتبعين للكتاب والسنة، وهل هو من المجاهدين في سبيل الله ج

<<  <  ج: ص:  >  >>