للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من جحد شيئاً مما جاء به الرسول كفر

إذاً: هذا تكميل لدليل الإجماع ثم قال: (ولمّا لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله تعالى في حقهم: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧] ) هذا دليل من الكتاب على كفر من جحد وجوب الحج أو امتنع عن أدائه استكباراً وجحوداً، فهذا الدليل نص على كفر من جحد الحج ولو أقر بباقي شرائع الإسلام، وهذا دليل من القرآن بعد أن ذكر دليل الإجماع، وهذه طريقة سلكها كثير من أهل العلم، وهي أنه إذا كان في المسألة دليل من الإجماع قدم دليل الإجماع على غيره من الأدلة؛ والعلة في ذلك أن دليل الإجماع لا يدخله النسخ خلافاً لأدلة الكتاب والسنة، فأتى بعد الإجماع بدليل من كتاب الله سبحانه وتعالى وهو قوله جل وعلا: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧] .

ثم قال رحمه الله: (ومن أقّر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحلّ دمه وماله كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:١٥٠-١٥١] ) فهذا فيه الحكم بالكفر على من صدق ببعض الكتاب وجحد ببعضه فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً، وأنه يستحق ما ذكر زالت هذه الشبهة، وكيف زوالها؟ أن نقول لهم: إنكم وإن كنتم قد أقررتم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقررتم بالبعث، وبغير ذلك من شرائع الإسلام، فإنكم قد جحدتم وجوب صرف العبادة لله وحده دون غيره، فلما جحدتم هذا فقد جحدتم ما دل عليه الكتاب وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وقع في الكفر، وبهذا تندفع شبهتهم ويزول الإشكال.

ثم قال رحمه الله: (وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا) .

واستطراداً في الرد على هذه الشبهة قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة، أنه كافر حلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله، لا يجحد هذا، ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول؛ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل] .

بعد أن بين لهم الشيخ رحمه الله أن من جحد أو أنكر شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر، نزّل هذا على ما وقعوا فيه من الشرك بالله سبحانه وتعالى فقال: (ويقال: إذا كنت تُقر أن من صدّق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان، لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدّمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول؛ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله!) تعجباً من هذا التناقض الذي أورده هؤلاء، وإنما أوردوه لأنهم تكالبت على قلوبهم الشبهات: ما زالت الشبهات تغزو قلبه حتى تشّحط بينهن قتيلاً فهؤلاء لما غطت الشبهات وطغت على قلوبهم غيبت عنهم هذه الحقائق الواضحة الجلية، وإلا فإن من له أدنى بصيرة ومن عنده معرفة بالقواعد العقلية لا يقول هذا الذي ذهبوا إليه.

ومعلوم أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، ويدلك على هذا أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لأجله فقال جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] ، ويدلك على هذا أيضاً أن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل لتقريره فقال جل ذكره: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] ، وقال جل ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] ، والآيات في أن الرسل إنما بُعثوا لتقرير التوحيد ودعوة الناس إليه كثيرة جداً، ويدلك أيضاً على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، أنه أول واجب على المكلف؛ فأول ما يُطلب من العبد هو أن يقول: لا إله إلا الله، كما في حديث بَعْث معاذ إلى اليمن حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) ، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له بقية الشرائع التي يأمرهم بها , ويدلك على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد أنه هو الذي إذا ختم الإنسان حياته به دخل الجنة، فإن آخر ما تندب إليه وآخر ما يُشرع لك فعله هو قول: لا إله إلا الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة) ، كل هذا وغيره مما دل عليه الكتاب والسنة بالنظر يدل على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، فمن الخطأ أن تقول: إن جحد بعض شرائع الدين يكفر به الإنسان، وجحد التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به لا يكفر به الإنسان، ولا ينقص إيمانه، ولا تنزل عليه آيات الكافرين! وأول أَمْر أَمَر الله به عباده في كتابه هو توحيده، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] فإن أول أمرٍ أمرَ الله به في كتابه هو عبادته، وعبادته هي توحيده سبحانه وتعالى.

وهذا أيضاً مما ينضاف إلى ما سبق مما يدل على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به هو التوحيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>