للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مدلول كلمة (القرآن) في اللغة والاصطلاح]

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل

في بعض نسخ المنظومة: (فهو الكريم) ولعل هذا أولى وأصح كما سيأتي بيان ذلك.

قوله: (وأقول في القرآن) ذكرنا سابقاً أن القول يطلق ويراد به الاعتقاد، وهو يقول: وأعتقد في القرآن، والقرآن هو اسم للكلام الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جملة المكتوب في المصاحف، المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولها سورة الفاتحة وآخرها سورة الناس، وأصبح القرآن علماً يطلق على الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

واختلف أهل اللغة رحمهم الله تعالى في أصل اشتقاق هذه الكلمة، هل هي من قرأ أم من قُران؟ فإذا قيل: قرأ، تكون مهموزة، وقران سيأتي أنها ليست مهموزة، وإذا قيل: إنه اشتق من قرأ، سبب اشتقاقه يقال: إنه أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هي سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:١] وكما في قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:١٠٦] .

والاشتقاق الثاني: أنها مأخوذة من قُران، على وزن فعال من القرن، أي: أن القرآن جمع بعضه لبعض، ويقصد به: أنها قرنت سوره وآياته بعضها ببعض، ويؤخذ من معناه: الاجتماع، فنجد أن الحروف مجتمعة، والسورة مجتمعة، والآيات مجتمعة.

ولفظ القرآن لم تطلق على كتاب من الكتب السابقة سوى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وللقرآن أسماء كثيرة ومشتهرة وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أوصلها السيوطي في إتقانه إلى نيف وعشرين، وإن كان جلها أوصافاً وليست أسماء، وأشهر ما أطلق على القرآن أنه التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله تعالى، وشرح العلماء رحمهم الله تعالى سبب تسميته بالقرآن، والتنزيل، والفرقان وغيره، ولسنا بصدد الكلام على هذا.

يقول الشيخ رحمه الله:

وأقول في القرآن ما جاءت به

أي: أنه عقيدته في كلام الله تعالى هو ما ورد في الآيات.

(ما جاءت به آياته) ما جاء في الآيات في كتاب الله تعالى، ويدلنا على المنهج الواجب في باب الأسماء والصفات، وهو ألا نثبت لله شيئاً من الأسماء ولا نثبت لله شيئاً من الصفات إلا بنص من كتاب أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنهج في باب الأسماء والصفات نقول: باب الأسماء والصفات من الأمور الغيبية، والأمور الغيبية لابد فيها من نص من كتابٍ أو سنة، وما لم يرد نص من كتاب أو سنة فلا يمكن أن نثبتها، ولا يمكن أن ننفيها.

(آياته) الآية: هي مقدار من القرآن مركب سواء كان تقديراً أو إلحاقاً تقديراً مثل: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:٦٤] معناها: هما مدهامتان، مثل قول الله تعالى: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:١] {وَالضُّحَى} [الضحى:١] كأنه قسم: والله أقسم بالفجر، أقسم بالضحى.

ومثل الإلحاق: الآيات التي وردت في فواتح السور، مثل: (آلم) ، (آلر) هذه تسمى ملحقاً، وقالوا: إنما سميت الآية آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله تعالى.

والآية التي يوحى بها من عند الله تعالى جلها تكون إلى الأنبياء والرسل، فإن أفراد الناس لا يوحى إليهم أصلاً، وإنما يوحى للأنبياء والرسل، وتأتي الآية دليلاً على صدق هذا النبي والرسول عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم أوتي الآيات العظيمات الدالة على صدقه.

بالنسبة لتحديد الآية بدايتها وأولها وآخرها، هذا أمر توقيفي لا يمكن للإنسان أن يقول: هذه آية من عند نفسه، وإنما كان الصحابة يتلقون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكرت للآية إطلاقات متعددة، وذكروا أن من الإطلاقات للآية ما أطلق على المعجزة، وتطلق على القطعة من القرآن، والآية في كلام العرب يطلق ويراد بها أمارة، يقال: آية هذا الشيء أمارته، أي: علامة على هذا الشيء، ولعل كل هذه تطلق على ما ورد من هذه الآيات.

وذكر العلماء أطول آية، وهي قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:٢٥] قالوا ومثلها: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢] لكن أعظم آية في كتاب الله تعالى: هي آية الكرسي، وأقصر آية في القرآن في عدد كلماتها قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:٦٤] وبالنسبة لما يتعلق بالحروف المقطعة قالوا: إن أقصر آية: {طه} طه ١] وبالنسبة لعدد آيات القرآن فقد ذكر أبو عمرو الداني رحمه الله تعالى وهو من كبار القراء في كتابه وسماه: (العدد) قال: أجمعوا أن عدد آيات القرآن ستة آلف آية، وما حصل من الزيادة على ذلك فقالوا: إنه اختلاف بين العلماء في تحديد أول الآية أو آخرها، بناءً على قول بعضهم: ربطناها بالمعنى، وبعضهم يقول: لا، بناءً على التلقي الذي أخذوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بالنسبة لترتيب الآيات في المصحف فهو ترتيب توقيفي، ولا يجوز للإنسان أن يقدم آية على آية في قراءة أو في غيره بأن يقرأ القرآن منكساً، أي: مثلاً يبدأ بآخر الفاتحة، ثم يختم بالحمد لله رب العالمين.

نقول: لا، لأن القرآن معجز في ترتيبه، وفي آياته، وبالنسبة لترتيب السور فالصحيح أنه ليس توقيفياً، ومنهم من يقول: إنه توقيفي، ومن قال: ليس ترتيب السور توقيفية قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، ولو كان توقيفياً لسردها النبي صلى الله عليه وسلم سرداً على ضوء ما ورد، ولكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعوا على أن عثمان رتب المصحف بالترتيب الموجود بين أيدينا، وكأن جمعاً من أهل العلم قالوا: الأولى للمسلم ألا يقدم سورة على سورة، نظراً لإجماع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذا فيما يتعلق بـ:

وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل

في كلمة: (القديم المنزل) لفظة القديم سيأتي إن شاء الله تفصيلها، وبيان معتقد أهل السنة والجماعة في كون القرآن قديم.

أقول للأحبة: إن تركيزي على بعض المسائل؛ نظراً لما تمس الحاجة إليه، فمبحث الأسماء والصفات تحتاجه الأمة، ولا يزال كثير من المسلمين يتخبطون فيه، ومبحث الصحابة لا يزال كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام يتخبطون فيه، وبقية الأبيات متعلقة باليوم الآخر فلا تحتاج إلى شيء من التفصيل؛ لأنها من المسائل الخبرية التي يتلقاها المؤمن بالتسليم، ولم يحدث فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى في كثير منها، خاصة الخلاف الذي ينبني عليه تفرق وانقسام في الأمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>