للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة الأخطل]

حجة هؤلاء هو قول الرجال، وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يستدلون بقول الأخطل، والأخطل شاعر نصراني، ولد في الصحراء الشامية -أي: في الشام - واسمه: غياث بن الصلت بن طارقة، وينسب إلى عشيرة بني جشم بن بكر التغلبية، وبعض العلماء يقولون: تعتبر هذه العشيرة من القبائل العربية، ولكنها كانت قبيلة نصرانية، كانت أمه اسمها ليلى من قبيلة إياد النصرانية، وكنيته أبو مالك، وقد عاش هذا الرجل ومات نصرانياً، ولم يكن على الإسلام، قالوا: قبحه الله كان يظهر تعليق الصليب على صدره وفي عنقه، وهذه من عادة النصارى، وذكر أن الخليفة دعاه إلى الإسلام فرفض ولم يقبله، وهجا خصومه من المسلمين، وكان في عصر جرير والفرزدق، وكان بينه وبين جرير أشعار وذم وقدح، وليس غريباً أن يحدث بين الشعراء مثل هذا.

كان الأخطل مسرفاً في شرب الخمر، ولا شك أن النصارى يستبيحون هذا الأمر، ويرون أن: الخمر هي مصدر الإلهام الشعري، ولا شك أن هذا الكلام باطل وغير صحيح.

هذا الأخطل له بيت من الشعر، وهذا البيت من الشعر يحتج به الأشاعرة، وعجباً من الأشاعرة كيف يستدلون بقول نصراني وليس بسلفي في معتقده في مسألة الكلام لله سبحانه وتعالى، والبيت الشعري هو:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

ولو جئنا نناقش الأشاعرة في هذا الأمر لتبين بطلانهم من وجوه متعددة: أولاً: نقول لهؤلاء الأشاعرة في استدلالهم على أن كلام الله نفسي: (إن الكلام لفي الفؤاد) أي: الكلام الحقيقي هو في النفس (وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً) أي: أن اللسان هو دليل على كلام في القلب، وإن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب والنفس، وهذا الكلام باطل لا شك فيه.

يقول الأشاعرة: لا يحتج بالكتاب والسنة التي ثبتت بالآحاد في مسائل الاعتقاد إلا إذا كانت متواترة، أما إذا لم تكن متواترة فلا يحتج بها، ونحن نقول لهم: أعطونا سند هذا البيت الآن عن الأخطل، هل سنده متواتر حتى نحتج به، أم سنده خبر آحاد؟ بل بعضهم يقول: إنه منسوب أصلاً إلى الأخطل فلا يحتج به، وهذا من منهج المبتدعة، أنهم إذا لم يقبلوا النص أخذوا يتشبثون ببيت العنكبوت، ولعلهم هنا لما لم يقبلوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلال الله وعظمته، أخذوا يتشبثون بأي شيء، تشبثوا بلغة العرب وأعرضوا عن القرآن والسنة، وتشبثوا ببيت لم يصح سنده أصلاً، وحتى على فرض صحته، فإنه ورد بصيغة:

إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وإذا قصد (إن البيان لفي الفؤاد) قد يكون المعنى له وجه من الصحة.

ثم نقول كذلك: كيف يُستدل بالنصارى في مسألة الكلام وهم من أضل الناس في كلام الله تعالى؟ أليس عيسى عليه الصلاة والسلام كيف خلق؟ هل هو ذات الكلام أم أنه خلق بكلام الله؟ هم يقولون: هو كلام الله وهذا الكلام باطل، بل إن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق بكلام الله تعالى، خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بكلام الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] .

فعيسى ليس هو الكلمة، وإنما خلق بكلمة: كن، فكان عليه الصلاة والسلام.

ومنها كذلك: لو أخذ بكلام هؤلاء الأشاعرة للزم أن يقال: إن الأخرس متكلم، أليس الأخرس في جوفه كلام؟ إن الكلام لفي الفؤاد، فالأخرس عنده كلام يشير وغيره، ولا يقول أحد: إن الأخرس متكلم أصلاً، ولو قيل: إن الكلام هو النفسي فقط، للزم أن يكون الأخرس متكلماً.

ثم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لنا: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) أنت إذا دخلت الصلاة لا يجوز لك أن تتكلم فتقول: يا فلان! كيف حالك، أو تسلم على فلان، أو ترد على أحد سلاماً، لكن أنت في الصلاة وأنت مكبر كم يحدث من الكلام في النفس أمراً عجيباً، بل ربما يلفظ الإنسان لا شعورياً ويتحدث في الصلاة بأمر، يبيع ويشتري ويبني ويسكن ويذهب ويرجع، وهو مكبر في الصلاة، هل يقال: هذه تبطل صلاة الإنسان؟ لا، وإنما الذي يبطله هو ما تلفظ به.

ولهذا اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم بصوته متعمداً في صلاته بطلت صلاته، لكن ما خطر في قلبه لا يعتبر كلاماً ولا يلتفت إليه أصلاً، ثم نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عفي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) دل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً، ولا يمكن أبداً أن نفسر كلام الله تعالى على أنه حديث النفس، ونجد هذا مدلوله في لغة العرب، بل نجد القرآن نزل بلغة العرب، وهذا هو المدلول الصحيح في ذلك.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أمسك عليك هذا، قال: يا رسول الله! أو نحن مآخذون بما نتكلم به؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) لكن خواطر القلب الناس معذورون فيها، ولما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] جثا الصحابة بالركب، قالوا: يحدث في قلوبنا من الحديث، فإذا كنا نحاسب على ما في القلب، عفا عن هذا ولم يلتفت إليه، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنما حدث في القلب لا يلتفت إليه، بل إن الإنسان ما لم يتكلم أو يعمل به فلا ينظر، وبهذا نعلم أن قول الأشاعرة في كلام الله قول باطل مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة، ولعقيدة سلف الأمة، وبهذا عرفنا أن قولهم: إن الكلام نفسي ليس بصحيح.

ولقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رداً على هؤلاء كما في رسالته التسعينية رد على الأشاعرة من تسعين وجهاً أبطل به مذهب الأشاعرة على أن كلام الله نفسي، مما يدل على أن قولهم هذا ليس صحيحاً، وقد خالفوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>