للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف السلف ممن أنكر رؤية الله في الآخرة]

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نختم مبحث الرؤية ببعض الآثار التي نقلت عن بعض سلف الأمة رحمهم الله تعالى في حكم من أنكر رؤية الله تعالى، والناظم يقول:

والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل

أخرج اللالكائي رحمه الله في أصول اعتقاد أهل السنة من طريق مفضل بن غسان، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: "عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحاح" مما يدل على أن رؤية الرب سبحانه وتعالى مما تواترت النصوص في إثباتها والدلالة عليها.

وقال علي بن المديني رحمه الله تعالى: سألت ابن المبارك عن رؤية الله تعالى؟ فقال: ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه، ثم قرأ قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] فقلت له -أي: مفسراً الآية على أنها لإثبات الرؤية-: إن عندنا أقواماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث، وذكروا منها: أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، ومنها: أن أهل الجنة يرون ربهم، قال: فحدثني -أي: ابن المبارك - بنحو عشرة أحاديث في هذا، وبين منهج أهل السنة، قال: أما نحن فإننا نأخذ ديننا هذا عن التابعين، والتابعون أخذوا دينهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوه؟ فما سندهم فيما أخذوه في نفي الرؤية وفي نفي النزول للرب سبحانه وتعالى؟! وهذا ما يتميز به المنهج السلفي أنه يأخذ عقيدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم لها عن طريق السند، أي: لا يأتون بها من عند أنفسهم، بخلاف المبتدعة فما لهم سند يأخذون عنه إلا أئمة من أهل الضلال والانحراف عن صراط الله المستقيم.

وقال عبد العزيز بن الماجشون: ولم يزل -أي: المبتدعة من الجهمية وغيرهم- يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] فقالوا: لا يراه أحد من خلقه يوم القيامة، ولهذا جحدوا أفضل كرامة يكرم الله بها أولياءه سبحانه وتعالى.

ومما نقل عن الإمام أحمد في الذين نفوا الرؤية، قال: من لم يقل بالرؤية فهو جهمي.

وقال أيضاً وقد بلغه عن رجل قال: إن الله لا يرى يوم القيامة، فغضب لذلك غضباً شديداً رحمه الله تعالى وقال: إن من قال: إن الله لا يرى يوم القيامة فقد كفر، وعليه لعنة الله وغضبه كائناً من كان من الناس، أليس الله تعالى يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] .

قال مالك: من كذب بالرؤية فهو زنديق.

وقال أيضاً: إن الرؤية وأحاديثها نعلم أنها حق من عند الله جاءتنا، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه نصوص تثبت قضية الرؤية للرب سبحانه وتعالى.

ومن اللطائف: ما ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى أن النساء لا يرين الله يوم القيامة، واستدلالهم بهذا أن يوم الجمعة هو يوم المزيد، وقد ورد حديث: (أنهم يرون ربهم فيزدادون حسناً، قالوا: فيرجعون إلى أهليهم -أي: إلى أزواجهم- فيقولون: قد بلغ منكم الحسن) وما ذلك إلا لرؤيتهم للرب، ولكن الذي يظهر أن الرؤية عامة للرجال والنساء، وللصغير والكبير، وتكون لأهل الإيمان ولأهل التوحيد بالله سبحانه وتعالى.

ثم قال الناظم:

والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل

قول المؤلف: (والمؤمنون) هذا وصف ينطبق على المتبعين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة.

وقوله: (يرون ربهم) هذه نسميها الرؤية الحقيقية الحسية، وهي الرؤية بالأبصار، وليست رؤية القلب، فإن رؤية القلب كل يعرف ربه كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الكفار بأنهم يعرفون الله تعالى.

وليست رؤية بصرية: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، هذه نسميها رؤية قلبية، فهم يعرفون بها ربهم سبحانه وتعالى، لكن الرؤية هنا للمؤمنين هي الرؤية البصرية الحسية، ولذلك نثبتها لله تعالى.

قوله: (حقاً) أي: صدقاً وحساً لا خيالاً، فليست رؤية خيالية، وليست رؤية مجازية كما يؤولها المبتدعة، فالمبتدعة يؤولون رؤية الله تعالى، ولذلك قال: (يرون ربهم) أي: خالقهم ورازقهم وموجدهم من العدم.

ومن اللطائف هنا: أن الأشاعرة ينفون علو الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إن الله ليس في العلو، وقولهم هذا ليس صحيحاً بل باطل، ولكنهم يثبتون الرؤية لله تعالى، ولهذا نجد الجهمية نفوا الرؤية ونفوا العلو جميعاً، ويقال: هناك ثمة صفات مرتبطة بعضها ببعض، الاستواء على العرش، والعلو، والنزول، والرؤية، فمن أثبت واحدة منها لزمه أن يثبت الجميع، لأنه يترتب بعضها على بعض، ولهذا قال أئمة أهل السنة: إن الأشاعرة مضطربون، فقد قالوا: الله ليس في العلو، ولكنهم يقولون: الله يمكن أن يرى، أو الله يرى، فلما جاءهم هذا الاضطراب قيل لهم: كيف يرونه؟ بالنسبة لأهل الإيمان فقد ثبت في صحيح مسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم: (إذ سطع عليهم نور من وفقهم فإذا الجبار سبحانه وتعالى) أما هؤلاء فماذا سيعملون؟ قالوا: إن الله يرى في غير جهة، لا ندري من أي جهة يرى! المهم أننا نثبت الرؤية لكن من غير جهة، وبهذا أصبحوا مضطربين في قولهم، ليسوا على منهج صحيح، أما أهل السنة فإنهم قالوا: إنه يُرى من جهة العلو، ولذلك رفعوا أبصارهم فإذا الجبار سبحانه وتعالى، وأصبحوا يرونه رؤية حقيقية ليس كما يقوله المبتدعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>