للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مولد شيخ الإسلام ابن تيمية وبداية طلبه العلم]

ولد رحمه الله تعالى يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول سنة (٦٦١هـ) بـ حران، وقدم به والده مع إخوانه إلى دمشق عند استيلاء التتر على كثيرٍ من بلاد الإسلام سنة (٦٦٧هـ) ، فسمع في أثناء قدومه من علماء دمشق عدداً كبيراً رحمه الله تعالى، عُني رحمه الله بعلم الحديث، وسمع المسندات وحفظ كثيراً منها، وسمع كتب السنة الستة، ومعجم الطبراني، وكتباً حديثية كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم ومن معاصريه: أي حديث لا يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية فليس بحديث، وإن كنا نقول: في هذا نوع من المبالغة، لكنه ثناء عليه بما آتاه الله من العلم.

قرأ رحمه الله كتباً كثيرة، ورزقه الله حافظة قوية، وكان سريع القراءة رحمه الله، وسبحان الله! أقول للأحبة: من آداب طالب العلم أن يكثر من القراءة، ويسهل عليه بعد ذلك أن يقرأ، بعض طلاب العلم ربما يقرأ في كتاب فيشعر أنه لا يقضي عشر صفحات إلا في وقت طويل، وبعضهم مع الاستمرار يقرأ في جلسة واحدة ما بين الظهر إلى العصر مقدار مائتي صفحة إلى ثلاثمائة صفحة ويفهم ما فيها؛ نظراً لأنه ينمو عنده قضية التحصيل والقراءة، وهكذا ما ينمو من قضية الحفظ.

أقبل رحمه الله تعالى على تفسير القرآن، وكان متميزاً فيه، وذكروا أنه فسر سورة نوح في سنوات عديدة، كان يشرحها يوم الجمعة رحمه الله تعالى، وهذا يدل على سعة إطلاعه ومعرفته وإدراكه بتفسير القرآن.

كان لسجنه أثراً عظيماً جداً في تعمقه وفهمه لكتاب الله تعالى، يقول لما سجن: لا أدري ماذا أجزي من سجنني على ما حصل لي من الخير، فسجن معه أخويه، وكان يسجن هو ويدخل أخوه معه من أجل أن يخدمه رحمه الله تعالى، وكانا يعرضان القرآن، يسمع بعضهم لبعض، وفي سنته الأخيرة التي توفي فيها مكث في السجن سنتين ثم توفي، قالوا: إنه ختم ثمانين ختمة وهو يتأمل القرآن، وكان يستحضر الآيات كأن المصحف أمام عينيه رحمه الله تعالى، مما يدل على قوة حافظته، يقول لما سجن: سبحان الله! بدأنا نفهم القرآن ونتأمله، والسبب أنه لما كان خارجاً كان اهتمامه بمناظرة المبتدعة، وبشرح بعض الكتب والتوسع فيها، وتبيين وتأليف بعض المسائل في الاعتقاد وغيره، فلما سجن تفرغ لكتاب الله تعالى رحمه الله ورضي عنه.

قالوا: إنه تأهل للإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين سنة، وأصبح يفتي بعد أن بلغ عشرين سنة.

قالوا عن حافظته: إنه ما حفظ شيئاً فنسي، وتولى التدريس بعد وفاة والده الذي تعلم عليه، ودرس بدار الحديث في أول سنة (٦٨٣هـ) .

كان يحضر دروسه بعض مشايخه وعلمائه ويتعجبون من فطنته وذكائه، ومن استحضاره للنصوص، وسبحان الله! رجل تميز بفنون عديدة، وإذا تكلم بفنٍ معين ظن السامع أنه لا يجيد إلا هذا الفن، بل والأعجب من ذلك أنه درس علم الفلسفة، وهو خلاف ما كان عليه الإمام الغزالي عفا الله عنا وعنه وهو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الذي يسمى حجة الإسلام الفقيه الشافعي المشهور.

ذاك درس العلم وخاض في الفلسفة قبل أن يؤصل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتب كتابه العجيب الذي اسمه (المنقذ من الضلال) ، ذكر في مقدمته أنه كان من منهج الإمام أحمد رحمه الله تعالى عدم القراءة في كتب أهل البدع، وعدم الحضور في حلقاتهم، وعدم الاجتماع بهم، ولا التعلم عليهم، ولا دراسة علومهم، قال: ولكني لم آخذ بها، فدرس الفلسفة وخاض فيها، حتى قيل فيه: أراد أن يبتلعها فغُص بها، حتى توفي وفي قلبه شيء من الفلسفة، ولم يرجع إلى ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه ما درس الفلسفة إلا لحاجة بيان بطلان ما كانوا عليه، ولأن الفلاسفة كان لهم قوة وصولة في عصره رحمه الله، وحتى أنه يناظر الفلاسفة ويبين لهم شيئاً من أصولهم لم يفهموها هم، بل لم يطلعوا عليها من كلام كبار أئمة أهل الكلام، مما يدل على اطلاعه رحمه الله تعالى.

ومن اللطائف: أنه تناظر مع أبي حيان رحمه الله، وهو الإمام المفسر، وكان أبو حيان قد أعجب بـ شيخ الإسلام أشد الإعجاب، وأثنى عليه أشد الثناء، وكتب رحمه الله ثناءً عليه، ولكنه لما ناظره في مسائل نحوية -وكان من كبار أئمة النحو- وبين أن هذا القول ليس بصحيح، فرد عليه بأن سيبويه قد قال كذا، قال: لقد أخطأ سيبويه في كتابه (الكتاب) -وهو من أنفس الكتب التي كتبت في النحو- في ثمانين موضعاً، ثم قال: لا تعرفها أنت ولا غيرك، فغضب عليه أشد الغضب، وبعدها عاداه أشد المعاداة، مما يدل على سعة اطلاعه في النحو والفلسفة وفي مسائل الاعتقاد وغيره.

وقالوا عنه رحمه الله: كان يتميز بأن عنده دراية ومعرفة بأقوال الصحابة أمراً عجيباً، ويتميز بالإسناد.

ولذلك كلما وجدت عالماً يربطك بما كان عليه سلف الأمة في الفقه، والأصول، والعقائد، والحديث، وغيرها فامسك بغرزه؛ لأنه يرجعك إلى المنبع، ويؤصل لك المنهج، وتستفيد منه استفادة عظيمة.

ذكر الإمام الذهبي رحمه الله ترجمة له وافية، وذكر في معجم شيوخه في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إنه برع في التفسير وغاص في دقائقه ومعانيه بطبع سيال، وخاطر إلى واقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مثلما يحفظه رحمه الله، وكان لا يحفظ شيئاً إلا ويعزوه إلى أصوله وإلى صاحبه الذي قاله، وكان شديد الاستحضار للأدلة وإقامتها، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف مذاهب الفقهاء، وفتاوي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بحيث أنه إذا أفتى في مسألة لم يلتزم بمذهب معين، بل يقوله مع دليله رحمه الله، وأتقن العربية أصولاً وفروعاً وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات إلى غير ذلك مما قال.

ثم قال في آخره: وأوذي رحمه الله في ذات الله تعالى من قبل المخالفين، وأخيف في نصرة السنة المحضة، حتى سار على منارة، وعلى وضوح، ولكن الله جمع له قلوب أهل التقوى، وجمعهم على محبته، والدعاء له، وكبت الله أعداءه، وهداه إلى صراطه المستقيم، وبين أن له علماً بالملل والنحل وغيرها.

قال الإمام الذهبي رحمه الله مع جلالته في آخر ترجمته له: وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي -يعني في عظمته ومحبته له وإعجابه به- فلو حلفت بين الركن والمقام وكنت صادقاً لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله رحمه الله تعالى ورضي عنه، مما يدل على تمكنه ومعرفته.

<<  <  ج: ص:  >  >>