للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مراتب الهداية]

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن الهداية لها مراتب: المرتبة الأولى: التكليم، وهو أن يكلم الله عبده يقظة بلا واسطة، وهي أعلى المراتب، كما حصل لموسى عليه الصلاة والسلام لما واعده ربه، وكما حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.

المرتبة الثانية: مرتبة الوحي، وهذه تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:١٦٣] .

المرتبة الثالثة: مرتبة إرسال الملك إليه، وهو إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري، فيوحي الله إليه بما أمر الله أن يوصله إليه، كما كان جبريل يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بل جبريل يأتي الأنبياء جميعاً، وهذه المراتب الثلاث يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنها خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم أبداً، وكل هذه المراتب الثلاث قد حصلت لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، كما حصلت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الأمم قبلكم محدثون، فإنه في أمتي عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه في شيء، فيكون كما يحدث به، أي: يقذف الله في قلبه شيئاً فيقول للناس: سيحصل كذا ويحدث كذا، وقد حدثت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسائل عديدة.

لطيفة من اللطائف: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن هذه الأمة ليس فيها محدثون كثير" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الأمم السابقة، ويذكر العلة من ذلك والسبب، قال: استغناء بكمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته فلم تحتج إلى محدثين كثير في هذا الأمر؛ لأن الشريعة قد كملت ولله الحمد، فلم يحوج الله الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى مُحَدَثٍ أو ملهمٍ، أو إلى صاحب كشف كما تقوله الصوفية.

المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام، ولهذا ذكر الله في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:٧٨] ثم قال الله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩] فالفهم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عبده، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء فيعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره.

ومثله قصة ابن عباس رضي الله عنهما عندما كان يجلس في مجالس عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر يصدره في المجالس، فقال الصحابة الكبار: إن لدينا أبناءً مثله في سنه فلماذا لا يجلسون؟ فسأل عمر عن قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] ما تفهمون منها؟ قال الصحابة: إنه إذا فتح على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه أمر بالاستغفار، قال: ما تقول يا بن عباس؟ [قال: إن هذا دليل قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم] ففهم ابن عباس فهماً دقيقاً، بمعنى: أنها انتهت الرسالة، وقد كملت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآن أمر بقضية كثرة الاستغفار لله سبحانه وتعالى والإنابة إليه.

المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام، وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه، ولذلك يقول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:١١٥] فأصبح الإضلال الذي يحدث للناس عقوبة من الله تعالى بعد البيان، أما كون الناس يضلون وليس عندهم وضوح ولا أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم، لكن بعد أن يبين لهم يحدث الضلال، ولا شك أن هذا عقوبة؛ لأنهم أعرضوا عما ذكروا به: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥] لأنهم هم المنحرفون.

وذكروا أن البيان يحدث بأمرين: بالآيات المسموعة وهي القرآن وغيره، وبالآيات المشاهدة، ولعل كثيراً من الناس يصلون إلى الآيات المسموعة ويعرفونها، لكن الآيات المشاهدة لا تحدث لهم، والله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠] ويعتبر من الآيات المشاهدة موت العلماء، ولاشك أنها آيات عظيمة، وثلمة تحدث في الأمة، ونقص لا يشعر به ولا يعرف خطره إلا من كان متميزاً وفاهماً.

منها: الآيات التي تحدث في الأمم من الزلازل والبراكين وغيرها آيات، من الناس من يتعظ ومن الناس كما قال الله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:١٠١] فلا يستفيدون شيئاً.

المرتبة السابعة: البيان الخاص: وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهي هداية التوفيق والإلهام.

المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع، وسنتكلم على مرتبة الإسماع في البيت الثاني والله قد قال في القرآن: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣] .

ويقصد بالإسماع هنا ليس إسماع الآذان وإنما إسماع القلوب، ولهذا تجدهم يسمعون الآيات ويسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، لكنهم لا يستفيدون، ولهذا قال الله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣] .

المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام، والله يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٧-٨] والمقصود بالإلهام هنا: أن يُجْعَلَ في قلب الإنسان تمييزه بين الحق والباطل، ولعل من الإلهام أن الإنسان إذا أذنب ذنباً سرعان ما يتوب، ويعرف بجرمه وبمعصيته، وبأنه خالف الحق، أو أنه إذا مر في طريق ميز بين أهل الحق والباطل، وميز بين أهل المعصية والطاعة، وميز بين الطريق الذي يأخذه والطريق الذي لا يأخذه، وهذا لا شك أنه نعمة ينعم الله بها على من يشاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ولهذا يقال: كل مؤمن فإنه قد ألهمه الله رشده، إذ أنه اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وأعرض، وأهل العقيدة الصحيحة ألهموا رشدهم إذ لزموا ما كان عليه سلف الأمة، وأعرضوا عن أقوال أهل البدع وما كانوا عليه.

المرتبة العاشرة: الرؤيا الصادقة، ولا شك أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، وهي أن يراها المسلم أو ترى له، وسبحان الله! تكثر الرؤى في آخر الزمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، مصداقاً لرؤيته صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يتميز به النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذه كانت من أوائل ما تأتي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتصبح الرؤى الصادقة للأنبياء إرهاصاً لهم ومقدمات لنبوتهم؛ حتى لا تفجؤهم قضية النبوة، فإنهم يبدءون يرون الرؤى ثم تقع، ثم تتكرر عليهم، ثم تأتي المرتبة التي بعدها حتى ينزل عليهم الوحي، ويؤمروا بقضية التبليغ.

أما بالنسبة للمسلمين أو لأفراد الناس فلا يمكن أن نقول: مقدمات للنبوة، بل هي جزء من أجزاء النبوة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يراها الإنسان أو ترى له، وتصبح إذا كانت الرؤيا صادقة.

ولعلنا نذكر من اللطائف هنا ونختم بها: الرؤى إما أن تكون أضغاث أحلام، وإما أن تكون رؤى صادقة، فأضغاث الأحلام لا يلتفت إليها أصلاً، والرؤى التي قد تكون صادقة تنقسم إلى قسمين: رؤىً تسر الإنسان ويفرح بها، ورؤىً تسوءه، أما الرؤى التي تسر الإنسان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يحب، فليحدث من يحب مخافة أن يحسده أحد) مثل الإنسان رأى أنه سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رأى أنه دخل الجنة، أو رأى أنه تزوج، أو أنه كسب مالاً، هذه رؤى طيبة، فهذه نقول: يحدث من أحب بها.

أما إذا رأى الإنسان ما يكره، مثل أن يرى أنه مقتول، أو أن على رأسه طائر، أو رأى أنه سقط في بئر، من الرؤى المفزعة، أو شخصاً يلحقه بسلاح، فلا شك أن هذه الرؤى تحزن القلب، وقد تؤثر عليه تأثيراً مباشراً.

بعض الناس يقوم من النوم وهو يبكي من شدة ما رأى، أو يصيح بأعلى صوته مما رأى، فماذا يعمل المسلم هنا؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أدباً عظيماً، وكان عمر يقول: [إني لأرى الرؤيا فتهمني، أو فتمرضني شهراً من فزعها] ثم دله النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن يتحول الإنسان عن موقعه الذي هو عليه، فإذا كان على جنب انتقل على الجنب الآخر، وإذا كان على ظهره انتقل على جهة أخرى.

ثانياً: أن يتعوذ بالله من شر ما رأى، وأن ينفث ثلاثاً، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا يخبر بها أحداً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تضره بعد ذلك) وفي بعضها أنه يتوضأ ويصلي، ولكن إذا عمل بهذا لا يضره شيء أبداً، وهذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكون الرؤى لا شك مفزعة.

وينبغي للإنسان ألا يفسرها، ولقد فسر يوسف عليه الصلاة والسلام للذين رأيا رؤيا وهما في السجن، أحدهم رأى أنه يعصر خمراً ويسقي ربه، والآخر رأى أنه يحمل على رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فأخبر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم إلى العقيدة الصحيحة: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} [يوسف:٣٩] ثم بين لهم أن أحدهم يصلب فتأكل الطير من رأسه، لو أُخبر الإنسان بهذا الخبر بأن رأى رؤيا مفزعة وقيل له: إنك ستموت وتقطع إرباً

<<  <  ج: ص:  >  >>