للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة رجل استغل الإجازة في معصية الله]

وتمر الأيام ونأتي إلى هنا ونجلس في العمل ونسأل واحداً من الناس من الزملاء في العمل، ليس من الزملاء في الله، قلت: أين قضيت الإجازة؟ عساك إن شاء الله استغليتها؟ قال: والله إنهاراحة لم أرها في حياتي.

قلت: خيراً إن شاء الله! أين ذهبت؟ قال: ذهبنا إلى جدة.

قلت: وأين سكنت؟ قال: سكنت في شقة في عمارة.

قلت: بكم؟ قال: أخذناها عشرة أيام بأربعة آلاف ريال من أربعمائة ريال.

قلت: إن شاء الله أخذت عمرة؟ قال: يا شيخ! والله ما أخذت عمرة.

قلت: هل جدة أقرب أم مكة؟ قال: والله مكة أقرب طبعاً من جدة لكن ما وجدت فرصة.

قلت: وكيف وجدتها إلى جدة؟! وهل عندكم مسجد؟ قال: والله -يا أخي- إن المكان الذي كنا نحن فيه ما سمعنا فيه الله أكبر.

قلت: معروف أن جدة مدينة فيها مساجد ممتازة؟ قال: لا أدري، العمارة تلك -والعياذ بالله- مغضوب عليها وعلى أهلها، يقول: والله ما سمعنا الله أكبر.

قلت: هل صليت؟ قال: ولا صليت من يوم أن ذهبت حتى رجعت في مسجد بل صليت في البيت.

لا إله إلا الله، وأربعة آلاف فوقها معها ضريبتها!! لا يدخل الواحد النار إلا بإيجاره، انظر الذي يذهب الجنة بأقل، وهذا بإيجار أكثر من أجل يُعشق، لا حول ولا قوة إلا بالله! قلت: وأين تذهبون خلال اليوم؟ قال: نرقد من الصباح إلى العصر ونقوم في العصر نذهب إلى البحر نقعد فيه إلى نصف الليل، ونعود نرقد إلى العصر في اليوم الثاني، فضحكت قليلاً، قال: ماذا بك؟ قلت: شيء في نفسي من أجله أضحك.

قال: لا، كلمني لماذا تضحك؟ قلت: يا أخي وازنت بين برنامجك وبين برنامج رجلٍ موفق من عباد الله الصالحين، وأعلمته بالخبر خبر ذاك الذي في مكة، فلما أعلمته تقطع قلبه حسرات، قلت: هل تحسرت؟ قال: إي والله.

قلت: سبحان الله يا أخي! الآن ذهبت الأربعة عشر يوماً عليك وعليه، هل بقي معك شيء من لذات نومك، ومن لذات البحر، ومن لذات السمك، ومن لذات الأكلات والنوم؟ قال: لا.

قلت: وذاك ما بقي معه شيء من آلام، إنه ينزل ولا يجد آلاماً، والله لا يوجد الألم إنه ينزل في المسجد الحرام، بل والله إن أسعد اللحظات لدى المؤمن إذا دخل من بابٍ من بيوت الله، ثم رأى بيت الله الحرام، إذا رأيت الكعبة تنفتح نفسك، وتشرق أساريرك، ترى أنه لا يوجد في الدنيا أسعد منك، لكن لو أذهب البحر فماذا أرى؟ أرى العراة والمدخنين والمطبلين وأرى قليلي الدين! معاصي وذنوب حمى الله عنها جسدي، فأوقع فيها بصري، المهم ما زلت أقول له: هذه كلها مسجلة في الديوان الثاني حقك، في ديوان السيئات ولكن استغفر الله وتب إليه وستأتيك فرص أخرى، وإذا جاءت فلا تكررها.

يا أخي! أنت ما خلقك ربي لشواطئ البحر، ولم يخلقك للنوم ولا لأكل السمك، إنما خلقك الله لعبادته وسوف تأكل سمكاً في مكة، وسوف تنام في مكة، لا يفوت المؤمنين شيء إذا ذهبوا إلى بيت الله أو ذهبوا في المدينة المنورة، بل والله يجدون ثواباً وكباباً.

أحد الإخوة يقول: إنه خرج في سبيل الله يدعو إلى الله وكان مولعاً بحب الكباب، فخرج من بلده إلى بلدة أخرى فمر عليه يوم ويومان وثلاثة وأربعة ما طعم الكباب ولا شم رائحته، فتقطع قلبه شوقاً إليه، ولكن صبر على هذا السفر، ويوماً من الأيام خرج من المسجد الذي فيه الدعوة وإذ هو يجد رجلاً أمام المسجد يبيع الكباب، والكباب يقلى على النار، فالرجل من فرحته قال: الله ثواب وكباب! يعني ثواب في المسجد وكباب هنا الحمد لله! وذهب واشترى له أربعة أو خمسة أسياخ وأكلها كلها وقال: الحمد لله، ثوابٌ وكباب! فهذه نعمة أهل الإيمان يجدون الثواب، ويجدون الكباب.

وأما أهل الغفلة فيجدون العقاب ويجدون العذاب، ولو وجد الكباب فإنه منغص وملغم بالمعصية، والمعصية إذا حلت في نعمةٍ أفسدتها، ما الذي يسعدك في الحياة؟ ما الذي يزين لك هذه الدنيا؟ ما الذي يعطي لك مالاً ووجوداً في حياتك؟ إنه الدين إنه الإيمان إنه الاتصال بالرحمن، لكن إذا عاش الإنسان حياةً مقطوعةً عن الله، لا يسمع كلام لله، ولا يألف الله، ولا يحب الله، هذا -والعياذ بالله- يأكل ويتمتع كما يأكل الحيوان: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١٢] .

فهذه الحياة كلها لنجعلها في منزلة الإجازة، كأنها إجازة ونقول لأنفسنا: لنقضي هذه الحياة في طاعة الله، ولنصبر على الآلام والمعاناة إن كان هناك شيء منها، اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله، واصبر على أقدار الله المؤلمة، وما هي إلا يومٌ وليلة وشهرٌ وأيامٌ وسنون تمر وبعد ذلك تنتهي إجازتك وترجع إلى الآخرة: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:٦-٧] هؤلاء الذين عملوا حقيقةً: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:٨-٩] لماذا ينقلب مسروراً؟ لأنه يجد السرور، ينقلب إلى أهله في الجنة وإلى زوجات وإلى نعيم مسروراً فرحاً لا يشعر بحزن؛ لأنه يشعر بلذة وسعادة: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:٩] أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم وآباءنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين.

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:١٠] ذهب يبحر! قعد يلهو ويلعب! قال: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} [الانشقاق:١١] يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، أي: المصائب يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه بالهلاك والدمار؛ لأنه يقول: أهلكت نفسي، دمرت نفسي ثم قال: {وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق:١٢] يصلى النار، لِمَ يا رب؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:١٣-١٤] اعتقد ألا يرجع إلى الله، الحور: هو الرجوع.

((بَلَى)) كلمة (بلى) هنا للإضراب، بلى سيعود: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق:١٥] إن الله لا يخفى عليه شيء من أمرك سرك وجهرك، ليلك ونهارك، كل أوقاتك مسجلة عليك، والله عز وجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في هذا الكتاب ويوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:١٤] فمن عمل، يقول يوم القيامة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:٤٣] أما من لم يعمل وفرط وسوَّف وأهمل فيقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٢٥-٣٢] .

فمضت الإجازة وانتهت، وما معك إلا الذي معك، إن عملت خيراً فيها فهو مكتوب، وإن عملت شراً فيها فهو مكتوب، ولكن بإمكانك أن تصحح الخطأ؛ لأن الله مكنك، وإن أناساً ذهبوا إلى جدة في الإجازات وما وصلوا بيوتهم، وقد سمعتم أنتم بحوادث السير، يقول لي مسئول في كهرباء منطقة تهامة في القنفذة: إنه في خلال الأسبوع الأول من أسبوع الإجازة أربعة وعشرون حالة وفاة من حوادث المرور، فقط هذا الذي بجوارهم في القنفذة، يقول: الذي علمته من طريق المستشفى المرور، أما الذي بعيد عني فكثير.

فأنت يا أخي ذهبت ورجعت، فمكنك الله وأعطاك فرصة، فإن كنت أحسنت فزد في الإحسان، وإن كنت قد أسأت فعد إلى الله وصحح الخطأ مع الله تبارك وتعالى ما دام في العمر متسع وفيه إمكانية قبل أن يحال بينك وبين التوبة وتقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩-١٠٠] فيقال لك: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠] .

<<  <  ج: ص:  >  >>