للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حرمة النياحة على الميت]

السبب الثاني في هذه الحلقة وقد سبقه أسباب: بكاء أهل الميت على الميت يعذبُ به في قبره، روى الإمام البخاري قال: عندما طعن عمر بن الخطاب دخل عليه صهيب يبكي، يقول: وآخاه واصاحباه.

وكان مصاب المسلمين في عمر مصاب جلل؛ لأن عمر ليس ككل الرجال، عمر رضي الله عنه وأرضاه من طراز فريد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إن يكن في أمتي محدثون فهو عمر) كان يقترح على الرسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتراح فلا يوافقه الرسول وإنما يوافقه القرآن، الاقتراح يأتي من عمر والموافقة تأتي من الله.

في غزوة بدر عندما الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في قضية الأسرى ماذا يفعل بهم؟ أبو بكر قال: [يا رسول الله! أبناؤك وأبناء عمك] إخوانك كيف نفتدي بهم؟ أسرى بدر من الكفار، وسأل عمر، فقال: [يا عمر! ما رأيك فيهم؟ قال: أعداؤك وأعداء دينك، أخرجوك وقاتلوك، اقطع رقابهم يا رسول الله!] فالرسول صلى الله عليه وسلم رحيم بالأمة، لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأسهلهما، فاختار رأي أبي بكر، وقبل منهم المنّ فمنهم من أعتقهم ومنهم من أخذ منه فدية، ومنهم من جعل فداءه تعليم القراءة والكتابة للصحابة، وبعد ذلك نزل قول الله عز وجل تأييداً لرأي عمر، وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:٦٧] وبعد ذلك يقول: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٨] قال صلى الله عليه وسلم: (لو نزلت نار من السماء لأحرق الله أهل هذا الوادي إلا عمر) .

هذا عمر فاروق الإسلام، كان إسلامه نصراً، وهجرته فتحاً، وإمارته رحمة، يقول: [والله لو عثرت شاة في العراق لكنت مسئولاً عنها يوم القيامة لما لم تمهد لها الطريق] .

وكان يطوف في الليل، لم يكن عمر ينام في الليل أبداً حتى قالوا له -رضي الله عنه-: [نجعل لك فراشاًُ -وهو أمير المؤمنين- قال: لا.

لا أريد فراشاً، قالوا: لتستريح فيه وتنام، قال: لا.

إن نمت في الليل ضيعت نفسي، وإن نمت في النهار ضيعت رعيتي، ما لي وللنوم] يقول: ليس هناك نوم، فكان يجلس تحت ظل شجرة أو ظل جدار وهو أمير المؤمنين، وثيابه مرقعة ومعه ثوب فيه ثلاث عشرة رقعة، ولما خطب يوم الجمعة، صعد وهو يلبس ثوبين، وقال: [اسمعوا وأطيعوا، فقام أعرابي وقال: والله لا نسمعك ولا نطيعك، قال: لمَ؟ قال: عليك ثوبين، ونحن ليس لنا إلا ثوباً واحداً، قال: أين عبد الله بن عمر؟ قال: هأنا يا أمير المؤمنين، قال: الثوب الذي عليّ أليس هو ثوبك؟ قال: نعم.

والله إنه ثوبي وأعطيتك إياه، قال الأعرابي: أما الآن سمعاً وطاعة، ما دام أنه ثوب ولدك، فثوب ولدك لك] وأين نحن من عمر -يا إخوان- أين هذا الطراز؟ لا إله إلا الله! كان يطوف في الليل ولما مر في الليل وهو يتفقد أحوال المسلمين، سمع طفلاً يبكي، فحنَّ قلبه ورق له، ذهب ورجع وإذا به يبكي، فدق الباب على أمه قال: أسكتي غلامك فإنك أم سوء -يقول: أسكتيه وأرضعيه- قالت: كيف أسكته وعمر يعطي خراجاً لمن يفطم، فأنا فطمته من أجل أن يعطينا خراجاً من بيت المسلمين، فرجع إلى البيت، يقول عبد الرحمن بن عبد الله: والله ما عرفنا قراءته في صلاة الفجر من كثرة البكاء والنحيب، وهو يقول: ماذا تقول لربك يا عمر غداً.

قتلت أولاد المسلمين؟ فما الذي جعل قلب عمر يكون في هذه الدرجة من الرقة والرحمة رغم أنه في الجاهلية قتل ابنته وهي حية، وكان يعبد الحجر، إنه الإيمان والإسلام يكشف عن المواهب، يجعل الحياة تتغير في كل شيء، لماذا؟ آمنوا بالله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣] آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، هذا عمر رضي الله عنه لما أصيب.

وطعن، دخل عليه صهيب الرومي وهو يبكي ويقول: [واصاحباه وآخاه، فقال عمر: يا صهيب! أتبكي عليّ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه] فسكت صهيب ولم يبك.

<<  <  ج: ص:  >  >>