للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقوال أهل العلم في حقيقة تعذيب الميت ببكاء أهله]

كيف يعذب الإنسان في قبره والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤] ؟ لِمَ يعذب الله الإنسان في قبره؟ وما نوع هذا العذاب والله عدل؟ وكيف يؤاخذ في قبره بأطفال آخرين بعده في الدنيا بكوا عليه وهو لا يدري وليس براضٍ، كيف يكون هذا؟ اختلف أهل العلم في الجواب على هذا السؤال على عدة أقوال: فبوب البخاري رحمه الله صاحب الصحيح وقال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) قال: إذا كان النوح من سنة الميت، وهديه، وطريقة تعايشه، عندما كان حياً كان يعلم أبناءه النوح، ويسن لهم هذا النوح، ويأمرهم بالنوح، ثم مات فإنه يعذب ببعض بكاء أهله؛ لأن بعض البكاء لا يعذب الله عليه، البكاء الذي يخرج عن طريق الرحمة البشرية، العين تدمع، والقلب يحزن، ولا يقول الإنسان إلا ما يرضي الله، هذا لا يعذب الله عليه، لكن البكاء الذي يعذب الله عليه الذي فيه نوح، والنوح مأخوذ من نوح الحمام، والحمام إذا ناحت تصدر لها صوتَ هديلٍ وأنين، فالنياحة هي: إطلاق الأصوات على سبيل التضجر والتبرم والتسخط، وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، فيعذب الإنسان بمثل هذا.

أما البكاء الآخر الذي مصدره الرحمة والعاطفة بدون تسخط -الإنسان بشر يتأثر بكل الأحداث التي تحيط به- فهذا قد أباحه الشرع وفعله النبي صلى الله عليه وسلم، حينما مات ابنه إبراهيم نزلت دمعتان من عينه وقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فهنا قيد البخاري رحمه الله هذا الموضوع بكونه إذا كان النوح من سنته؛ لأن الله يقول: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:٦] أي: علموا أنفسكم وأهليكم من بعدكم ألا ينوحوا عليكم، ولا يبكوا حتى لا يكونوا سبباً في عذابكم.

وممن ذهب إلى هذا الرأي الإمام الترمذي رحمه الله، فإنه روى حديث عمر، هذا الحديث الذي في صحيح البخاري: (إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله) ثم قال: قال: أبو عيسى هذا حديث صحيح.

وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت قالوا: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وذهبوا إلى هذا الحديث.

وقال ابن المبارك: (أرجو إن كان ينهاهم عن البكاء عليه في حياته ألا يكون عليه من ذلك شيء) أي: قيدوا العذاب بمن رضي أو سن أو علم، أما من لم يرض ونبه على أهله، وقال لهم: لا تبكوا عليّ إذا مت ولا تنوحوا، فإنه إن شاء الله لا يعذب في قبره.

وهذا الفقه للحديث هو مذهب الإمام القرطبي رحمه الله فإنه قال: قال بعض العلماء: إنما يعذب الميت ببعض البكاء إذا كان البكاء بتوصية الميت واختياره، كما كان يقول في الجاهلية:

إذا أنا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد

يوصي زوجته، يقول: إذا أنا مت، فابكي عليّ بما أنا أهله، وأيضاً شقي عليّ الجيب يا ابنة فلان، ونسبها إلى أبيها من أجل أن تزداد بكاءً عليه، وكان هذا من شأنهم في الجاهلية.

والنوح من عادات الجاهليين، من كان يحبه ولده أكثر ينوح عليه أكثر, وكانوا يستأجرون النائحات، وهن نساء عملهن النياحة ويسمونها نائحة.

والنائحة تبعث يوم القيامة ولها سربال من جرب ودرع من قطران -والعياذ بالله- ما لم تتب، كانوا يعطون النائحة أموالاً، ويجعلونها تنوح من شروق الشمس إلى أن تغرب، وبعد ذلك ليست واحدة وإنما يأتون بعشر نسوة أو أكثر لغرض النياحة، كلما كان الرجل عظيماً جاءوا له بنائحات أكثر، وتستمر النياحة يومين وثلاثة وبعضهم شهراً, أو شهرين أو سنة تنوح -والعياذ بالله- بحسب منزلة الإنسان، ثم جاء الإسلام فألغى هذا كله، وبين أن هذا حرام؛ لأنه يتنافى مع مبدأ الرضا بالقضاء والقدر، والتسليم لأمر الله عز وجل، فإن الآمر بالموت هو الله، والذي ارتضى الموت هو الله، والعبد ينبغي له أن يسلم ويستسلم لأمر الله عز وجل وشرعه ودينه.

إن النوح ولطم الخدود وشق الجيوب من عمل أهل الجاهلية، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء عليهم، وإشاعة نعيهم في الأنحاء، وكان ذلك مشهوراً في أخلاقهم ومذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم وقصصهم.

ولكن العلامة ابن القيم رحمه الله تعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل أكثر.

أولاً: ضعف مذهب البخاري، والقرطبي والترمذي، ومن سلك في مسلكهم في فقه هذه الأحاديث، وقال: قد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، وهو مخالف لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤] ثم تنوعت طرقهم في تأويل وشرح هذه الأحاديث الصحيحة، حديث البخاري صحيح ليس فيه كلام: (إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله) كيف؟ فمنهم من غلَّط الرواة، ومنهم من شكك في الرواية، وشكك في السند، وهذا مردود، ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان من عاداتهم وسنتهم ووصيتهم، فإنه يعذب على ترك نهيه لهم، وهو اختيار أبو البركات ابن تيمية جد شيخ الإسلام، وهذا الأقوال ضعيفة جداً.

هذا كلام ابن تيمية، ولكن الصحيح أن يقال -اسمعوا التفصيل-: إن الميت يعذب ولم يقل بالحديث إن الميت يعاقب -انتبهوا في التفريق؛ لأن العقوبة ماذا تكون نتيجتها؟ نتيجتها سلوك ارتكبه الإنسان، فهو يعاقب جزاءً وفاقاً لما ارتكب، لكن الحديث لم يقل: إن الميت ليعاقب في قبره، قال الحديث: (إن الميت ليعذب) والعذاب أعم وأشمل من العقاب، فإن العذاب ألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له، ليس بالضروري أنك إذا تألمت بشيء أن يكون عقاباً لك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب) هل السفر عقوبة لك؟ عندما تسافر من هنا إلى مكة هل هو عقوبة لك؟ لا.

أنت سافرت باختيارك، لكن نالك أثناء السفر راحة أو عذاب؟ عذاب كونك سافرت وركبت ووقفت وجئت، فالسفر قطعة من العذاب؛ لأنه يمنع الراحة والنوم والأكل والشرب، ويعرضك للموت، ويعرضك للحوادث، فهو عذاب، لكن هل هو عقوبة؟ لا.

فليس كل عذاب عقوبة.

والإنسان يعذب بأشياء مكروهة يشعر بها، وهي ليست عقوبة عليه، مثل: الأصوات الهائلة، عندما تنام في الليل وتسمع أصواتاً في الشوارع، أو في بيتك، ألست تتأذى بها؟ تتأذى وتتعذب، لكن هل هي عقوبة لك؛ لأنك فعلت شيئاً؟ لا.

فأنت تأذيت وعذبت بشيء لم تكن سبباً فيه، وليس عقوبة عليك، أحياناً تصلي في المسجد بجانب شخص يصلي بجوارك وقد أكل ثوماً أو بصلاً أليس يؤذيك؟ يؤذيك لا شك؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، آذى الملائكة بأكله للبصل والثوم ومجيئه للصلاة بجوارك، هذا آذاك وعذبك أثناء صلاتك بالروائح الكريهة، لكنه ليس بعقوبة، وما عملت شيئاً حتى يعاقبك بهذا الفعل، فليس كل عذاب يجب أن يكون عقوبة لسلوك معين، لا.

فإن الميت ليعذب، أي: يتأذى ولا يعاقب، يتألم ويتأذى، غير راضٍ لما يصنع من بعده؛ لأن هذا يخالف دين الله عز وجل، والإنسان في قبره يعذب ببعض كلام الناس، ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامهم.

ولذا أفتى أبو يعلى: بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم، كما تعذبهم بنياحة من ينوح عليهم، رغم أنها ليست بعقوبة يستحقونها، وهذا الفقه هو الذي صار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجاءت به الأدلة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: [أغمي على عبد الله بن رواحة إغماءة في موته، فجعلت أخته تبكي -أخته عمرة - تقول: وا جبلاه، وا أخاه، تعدد صفاته، فلما أفاق قال لها: يا أختي! ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أأنت كذلك؟] كلما قالوا: واجبلاه، قالوا له وهو في الإغماء: أنت كذلك؟ قالوا: فلما مات لم تبك عليه أخته، خوفاً من أن يعاقب، أو يسأل، أو يعذب في قبره ببعض الذي تبكي به عليه.

بل إن المعنى ورد صريحاً في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول: واجبلاه واسيداه، إلا وكل به ملكان ينهزانه أهكذا كنت؟) رواه الترمذي والحاكم وصححه.

وينبغي أن ينبه إلى أنه ليس كل من مات وبكي عليه يعذب، وإنما يعذب بالنياحة التي ورد النهي عنها في شرع الله، أما البكاء الذي يصدر من غير صياح ولا عويل ولا نياحة، فإن ذلك من شأن طبيعة البشر، ولا شيء فيه إن شاء الله.

ونسأل الله الذي لا إله إلا هو! أن ينجينا وإياكم جميعاً من عذاب القبر والحشر والنار وأن يحفظنا وإياكم بطاعته في الدنيا والآخرة، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله صحبه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>