للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مقياس الرجولة في قصة ابن مسعود]

هذه بعض الآثار التي وردت عن السلف رضي الله عنهم في الكذب، فالكذب -أيها الإخوة- ليس من خلق المسلم، لأنك إذا أردت أن تزنَ رجلاً لتقيمه فإنما تزنه بما فيه من قيم وموازين الرجولة، فالرجال لا يقاسون بطولهم ولا بعرضهم ولا بلونهم ولا بجمالهم، فإن الطول والعرض للإبل، والجمال والوسامة والبياض للنساء، فلا يقاس الرجال بالبياض والوسامة، لا.

هذا ليس من شأن الرجال.

وإنما يقاس الرجل بأخلاقياته، ولو كان نحيفاً كالخلال ولكن فيه معالم الرجولة، أما إذا كان سميناً جميلاً بديناً طويلاً عريضاً لكنه كذّاب، فإنك لا تثق به، هل يغني طوله وعرضه وجماله وبياضه عن كذبه، فتثق به لأنه جميل أو طويل أو سمين؟ لا.

أو كان جباناً أو بخيلاً أو منافقاً أو زانياً، لا.

لا ينفع كل هذا، لكن إذا جاءك شخص وهو كالخلال أو ذميم الخلقة أو قصير القامة لكنه صادق، فإنه يرتفع، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم.

كان ابن مسعود رضي الله عنه دقيق الساقين، كان إذا وقف عند الجالسين فكأن الجالسين جنبه، يعني: يأتي رأسه عند رأس الجالسين من قصر قامته، لكنه ممتلئ من رأسه إلى قدمه إيماناً، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم (إيه يـ ابن مسعود لقد مُلئ إيماناً من مشاش رأسه إلى أخمص قدمه) ذات مرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصعد ابن مسعود رضي الله عنه إلى الشجرة فرأى الصحابة ساقية حينما كشفت الريح عن إزاره، فكانتا دقيقتين كأنها مسواكين، فتبسم بعض الصحابة، أي: تعجب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود، والذي نفسي بيده لهما في الميزان عند الله أثقل من جبل أحد) نعم.

لأن الرجل مملوء بالإيمان.

يقول رضي الله عنه: [أخذت القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما من آية فيه إلا وأنا أعرف أين نزلت ومتى نزلت وفي الليل أو في النهار، وفي الصيف أو في الشتاء، وفي مكة أو في المدينة، وفي السفر أو في الحضر، وفي الحرب أو في السلم، ووالله لو كنت أعلم أنه يوجد في الأرض رجل أعلم مني بكتاب الله لضربت إليه آبط الإبل حتى ألحق به] فهو مهتم بكلام الله، هذا الرجل العظيم ساقاه دقيقتان، لكن قد يكون هناك من كفار قريش من ساقه ضخمة، مثل ساق أبي جهل، أبو جهل رأسه مثل رأس البعير، كبير، كانت عمامته فقط اثني عشر متراً، وكان يوم بدر قد لبس عمامة حمراء، وهي عمامة الموت، والتي كانت إذا لبسها العربي يُعرف أنه فدائي، يعني: أنه لا يريد أن يرجع ذاك اليوم، وكان يهدر كالجمل وهو يصف الجيوش لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن شرب الخمر وغنت النساء على رأسه، وقال لهم الشيطان: لا غالب لك اليوم من الناس وإني جار لكم.

وبعد ذلك لما قتله معاذ ومعوذ وهما صغيران من أبناء الأنصار ابتدراه بضربتين، فمر ابن مسعود هذا الصغير بين القتلى وإذا بالرجل يتشحط في دمه ويلفظ أنفاسه، فرآها ابن مسعود فرصة أن يحز رأسه، فصعد على صدره، وأخرج سيفه وأمسك بلحيته واحتز رقبته، فماذا كان يقول الخبيث؟ يقول: يا بن مسعود لقد وطأت موطأً صعباً -أي: ارتقيت على مكان لا يرتقي عليه أحد- ولكن إذا قطعت رأسي فأطل عنقي فإن الرأس يعرف بالعنق، أي يقول: إذا ذبحتني فأطل عنقي، انظر إلى الكبرياء حتى عند الموت! فجز ابن مسعود رأسه.

ثم بعد ذلك جاء يجرجر رأسه؛ لأن رأسه كبير مثل رأس الثور، والرجل صغير لا يستطيع أن يحمله، فما كان إلا أن أخرج سيفه وخرم أخراماً في أذنه، وربطه بحبل وبدأ يسحب هذا الرأس، وكان ابن مسعود لما أسلم في مكة، وكان هذلياً، أي من هذيل وهي قبيلة في الطائف، ولكنه كان يرعى لأهل مكة، ودائماً الغريب أو الراعي محتقر، فمر عليه أبو جهل عليه لعائن الله ذات يوم وقد سمع أنه أسلم، فقال: أصبأت يا رويع الغنم؟ قال: نعم.

يقول: فجاء وجذبني وأخذني بأذني وألصقني إلى الجدار، ثم أخرج مسماراً من جيبه، ودق المسمار في أذني إلى الجدار، فجلست معلقاً من أذني بالمسمار.

يقول: حتى مر الصبيان والدم يسيل من أذني إلى الأرض ولا يستطيع أحد أن يفكني، ولم يفكه إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، يقول: فلما جئت بالرأس والرسول صلى الله عليه وسلم جالس في العريش وقد انتهت المعركة، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم أذن ابن مسعود التي خُرمت في مكة ورأى أذناً هنا مخرومة، فقال: (الأذن بالأذن والرأس زيادة) يعني: أذن بأذن لكن معك مكسب فقد أتيت بالرأس، أي نعم.

فقضية قياسك للرجال لا تبنها على أشكالهم وألوانهم وإنما على أخلاقياتهم وصفاتهم وكرامتهم وشهامتهم، وما الذي يجعل للإنسان منزلة ومكانة في قلوب الناس إلا الصدق! فإنه إذا نُقِلَ كلام عن فلان من الناس، وقد عرف أن فلاناً هذا كذَّاب، فبمجرد أن يقولوا: من الذي قال هذا، فيقولون: فلان، فيقول الناس: اتركه هذا كذاب، أي: كلهم مجمعون على أنه كذاب.

وهذا إلغاء له، إلغاء لوجوده، فلا قيمة له لا وزن، ووالله إن بطن الأرض خير له من ظهرها، لأن مثله كمثل الكلب أو الخنزير الذي يُحكَى عنه، فلو أن شخصاً جاءك في مجلس من المجالس وقال لك: هل سمعت كذا؟ فيقول لك من الذي أخبرك؟ فتقول له: ذاك الكلب الذي عند الباب، هل سيصدقك؟ لا.

لأن الكلب لا يتكلم أصلاً، حتى لا يُقبل كلامه.

كذلك هذا الكذاب إذا أخبرت عنه خبراً، يعني: قيمته وقيمة الكلب أو الخنزير سواء.

لكن إذا نقل كلام وقيل: من قال هذا الكلام، فقالوا: فلان، عندها يقال: يا سلام، انتهى الأمر! مصدر وثيق، رجل ثقة لا ينقل إلا الصدق، ولا يتكلم إلا بصدق، وهو محط ثقة قلوب الناس، هذه هي قيمة الإنسان.

وبعض الناس يقولون: اكذب تنج، والحقيقة أن الصدق هو المنجي؛ لأنك وإن نجوت بالكذبة في الدنيا، فإنك لا تنجو بها في الآخرة، وقد لا تعاقب في الدنيا على الكذبة ولكنك ستعاقب عليها يوم القيامة، ولكن اصدق تنجُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>