للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دليل الفطرة على العلو]

ولم يقتصر الدليل على ذلك؛ بل دل على ذلك الفطرة؛ فإن الله فطر عباده جميعاً -حتى ذلك الذي يقول: إن الله في كل مكان- على أن الله سبحانه وتعالى في العلو.

ولهذا كان من مواقف السلف رحمه الله تعالى العملية شيء من هذا، فأحد أئمة السلف دخل على أحد الأشاعرة وهو يلقي درسه على المنبر، ويقرر فيه عقيدته الأشعرية؛ وكان مما قرره: إنكار أن الله في العلو، فكان هذا الشيخ يتكلم ويلقي درسه أمام الناس، ويقول: إن الله كان ولا عرش ولا سماوات، وهو الآن على ما كان عليه! ويقرر نفي العلو عن الله سبحانه وتعالى؛ فقال له هذا الشيخ -وهو الهمذاني - أمام الناس: يا إمام! دعنا من أقوالك، ودعنا من هذه الأدلة، وأخبرنا عن هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا: ما أراد ربه قط إلا ورفع بصره إلى السماء؟ قال: فنزل الإمام الجويني من المنبر وهو يقول: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني، وجلس بين أصحابه يبكي بكاءً شديداً، ومعلوم أنه في آخر أمره رجع، وأبطل تأويل الاستواء بالاستيلاء، وبين أنه يجب إثبات هذه الصفات على تفصيل في مذهبه رحمه الله تعالى.

لكن المهم جداً هو: كيف أن الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى العباد عليها دالة يقيناً على أن الله تبارك وتعالى في العلو.

ولهذا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية موقفاً آخر يقول: جاءني أحد مشايخ هؤلاء ممن ينفي علو الله سبحانه وتعالى في حاجة -وغالب من حاوره شيخ الإسلام في وقته من الأشعرية- وتعمدت أن أنشغل عنه قليلاً، يقول: فكلمني في هذه الحاجة فتشاغلت عنه، يقول: فلما انتظر قليلاً وسئم إذا بي ألمحه وهو يرفع بصره إلى السماء ويذكر ربه ويقول: يا ألله! يقول: فنظرت إليه وقلت له: ماذا صنعت؟ يقول: فاعتذر مني! وكان سبباً في توبته ورجوعه عما كان عليه؛ لأنه كان يقرر أن الله ليس في مكان؛ لا داخل العالم ولا خارجه إلى آخره، لكن في لحظة غفلة منه وجد نفسه فطرياً يرفع بصره إلى السماء متوسلاً مستغيثاً بالله سبحانه وتعالى، فدليل الفطرة دل على هذا.

وكذلك أيضاً دليل العقل دل على العلو، وسأبين لكم دليل العقل، لكن بعد أن نقف وقفات مع الأدلة التي أوردها الشيخ هنا، فأول دليل ذكره هو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، وهو من أدلة علو الله تعالى واستوائه على عرشه.

الدليل الثاني قال: (وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] ) ، وقوله: (في السماء) لا يقول عاقل: إن (في) هنا ظرفية، وأن الله داخل في السماء؛ لأن القول بأن الله داخل في السماء يلزم منه أن السماء فوقه، وأنها أكبر منه، وأنها محيطة به، وهذا لا يقول به إنسان.

إذاً: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] ، السماء هنا قد يقصد بها العلو، وليس مجرد السماء التي نشاهدها وهي السماء الدنيا أو ما فوقها، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: أأمنتم من في العلو؟ والقول بأن السماء هي مطلق العلو مستخدم كثيراً، فتقول: طار الطائر في السماء، وحلقت الطائرة في السماء، وأنت إذا قلت ذلك هل تقصد أنها دخلت داخل السماء أم تقصد أنها في العلو؟ تقصد أنها ارتفعت في العلو، وهذا واضح.

ويجوز أن نقول: (في) بمعنى (على) ، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: من على السماء، وهل تكون (في) في اللغة العربية واردة بمعنى (على) ؟ نقول: نعم، يقول الله تعالى عن فرعون لما أراد أن يصلب السحرة المؤمنين: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] ؛ وهو لن يضعهم داخل جذوع النخل، وإنما سيركز هذه النخل ويصلبهم عليها؛ وهذا واضح والحمد لله.

ثم يقول المصنف: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) ] .

هذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما، لكنه متكلم فيه؛ فبعض العلماء قالوا: إن فيه راوياً يقال له: زياد الأنصاري، قالوا: وهذا الراوي متكلم فيه؛ ومن ثم فنحن حينما نتحدث عن مثل هذا الحديث نقول: هذا الحديث ضعيف، وليس هو الدليل لوحده؛ حتى لا يأتي قائل ويقول: إنكم تحتجون بالأحاديث الضعيفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>