للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[زيغ وضلال أهل الأهواء والبدع بسبب التأويل الفاسد]

فالزائغون الذين حادوا عن منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن منهج أهل السنة والجماعة، هم الذين يتبعون ما تشابه منه، ويتأولون النصوص ليفتنوا الناس عن منهجهم ودينهم الحق، ويتأولون هذه النصوص تأويلات باطلة، ولهذا لما فتح أهل الكلام باب التأويل لنصوص صريحة احتج عليهم بها القرامطة والباطنية في تأويل نصوص أخرى، ولهذا تجد القرامطة والباطنية والفلاسفة يتأولون النصوص؛ حتى إنهم يتأولون نصوص المعاد، فيقولون بإنكار المعاد، أو بأن المعاد إنما هو روحي وليس جسمياً.

والمتأولة من أهل الكلام يكفرون هؤلاء، ويقولون: القرامطة كفار، والفلاسفة كفار؛ لأنهم ردوا النصوص القاطعة وتأولوها تأويلات باطلة لم يدل عليها دليل.

ولا شك أن من أنكر المعاد فهو كافر.

لا شك أن من أنكر حدوث العالم وقال بقدمه فهو كافر.

لكن أولئك القرامطة والباطنية قالوا للمتكلمين: كيف تسمحون لأنفسكم بتأويل النصوص ولا تسمحون لنا؟! كيف تسمحون لأنفسكم بأن تتأولوا نصوصاً صريحة في القرآن دالة على صفات الله وتقولون: منهجنا حق، وتأويلنا حق، ويجب التأويل إلى آخره، ثم إذا تأولنا نصوصاً أخرى مشابهة لها قلتم لنا: أنتم كفار؟! ما الفرق بين تأويلنا وتأويلكم؟! وكيف يصير تأويلنا كفراً، وتأويلكم طاعة وعقيدة صحيحة؟! ألكم على تأويلكم أجران، ونحن لنا على تأويلنا وزران؟! ولهذا تسلط الفلاسفة وتسلطت القرامطة وغيرهم على المتكلمين بسبب ما فتحوا من باب التأويل؛ لأن فتح باب التأويل معناه أن تترك النصوص لكل من شاء أن يعبث بها، ويأتي لأي نص ويبحث عن أي معنى ولو كان بعيداً، ويقول: هذا هو المقصود؛ ولهذا تجد القرامطة -مثلاً- يتأولون الصيام، ويقولون: الصيام هو حفظ أسرار الدعوة، فقيل لهم: كيف تتأولونه؟ فقالوا: نعم.

عندنا في اللغة العربية أن صام بمعنى: أمسك، والشاعر العربي يقول: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي: خيل ممسكة وخيل غير ممسكة، ونحن أمرنا بالصيام، فالصيام هو الإمساك، والإمساك المقصود به الإمساك عن كشف أسرار الدعوة الباطنية، وهذا تأويل صحيح، هكذا يزعمون! إذاً: هذا التأويل الذي دخل منه هؤلاء ليؤولوا الصلاة والصيام والحج وليؤولوا رءوس العبادات وأركان الإسلام، ما دخلوا إلا لما رأوا المتكلمين من المعتزلة العقلانيين ومن غيرهم ممن سلك مسلكهم يعبثون بنصوص القرآن والسنة الصريحة ويتأولونها! فقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] قالوا: استولى على العرش! فمن أين جاء هذا؟ ولم يرد في اللغة العربية استوى بمعنى استولى، إلا بيت شعر لا يعرف قائله، ويقال إنه مصنوع لأجل هذا المعنى: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وهكذا مثل قول الله سبحانه وتعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] بصيغة التثنية، يأتيك المتأول هنا ويقول: اليد هنا القدرة، أو اليد هنا النعمة، فقوله: (بيدي) ، يعني: بقدرتي أو بنعمتي، وهذا لا يمكن، بل هذا تأويل بعيد جداً، بل إن تأويل القرامطة للصيام أقرب من هذا التأويل.

ومن هنا أيها الإخوة في الله! كان تركيز السلف رحمهم الله تعالى في هذا الباب على رد التحريف ورد التأويل؛ لأن التأويل يفتح أبواباً كثيرة وعظيمة، وأبواب فتنة وزيغ، وحينئذٍ يتلاعب المتلاعبون بنصوص كتاب الله تعالى وما صح من سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>