للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضلال المعتزلة في القول بخلق القرآن]

وأحب أن أقف وقفة قصيرة هنا عند قضية القول بخلق القرآن فأقول: إن قضية القول بخلق القرآن هي القضية التي جعلها المعتزلة عنواناً لبدعتهم، فإن المعتزلة ينفون عن الله الصفات، ومما نفوه عنه صفة الكلام، فلما كان مستقراً في نفوس المسلمين أن هذا القرآن الذي معنا هو كلام الله؛ قالوا: لا، هذا القرآن مخلوق من المخلوقات المنفصلة عن الله سبحانه وتعالى، فكما خلق السماوات والأرض وبني آدم خلق هذا القرآن، فلم تقم بالله سبحانه وتعالى صفة الكلام.

والتي نعتقد نحن أنها صفة من صفات الله تليق بعظمته وجلاله.

واسمحوا لي أيها الإخوة! إذا ذكرت هذه القضية؛ لأنني سئلت عن قضية القول بخلق القرآن؛ وسمعت أن بعض الناس يقول: لماذا تحولت عند المسلمين إلى مشكلة في ذلك القرن، وليس فيها إشكال؛ وسواء قلنا بخلق القرآن أو لم نقل بخلق القرآن فالمسألة يسيرة، وبعضهم قال: ما كانت لتستحق تلك المشكلة والفتنة الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية التي امتحن فيها المؤمنون امتحاناً شديداً، وثبت الله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وبعض العلماء على ذلك! فأقول: إن هذه القضية قضية مرتبطة بمنهج المعتزلة العقلاني؛ فالمعتزلة أدخلوا عقولهم في هذا الباب، ودخلوا هذا المدخل الذي سموه توحيداً، وذلك من خلال قضايا متعددة أبرزها قضيتان: الأولى: أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فقالوا: إن إخلاص التوحيد هو بنفي الصفات عن الله؛ حتى لا نشبه الله بخلقه.

الثانية: أن المعتزلة ناقشوا النصارى، وناقشوا شرك النصارى، وأن النصارى يقولون بأن هناك ثلاثة آلهة، فقالوا للنصارى: أنتم مشركون تقولون: الأب والابن وروح القدس، هذا شرك بالله؛ فالله واحد لا شريك له.

فقال النصارى: نحن غير مشركين، نحن نقول: هذه أقانيم لإله واحد، فالأب والابن وروح القدس يساوي إلهاً واحداً، فجعلوها نظرية رياضية بدهية: ثلاثة تساوي واحداً.

وهذا الكلام غير معقول وغير مقبول، فهؤلاء النصارى قالوا: أنتم يا مسلمون! إذا كنتم تتهموننا بأننا نقول بثلاثة آلهة فأنتم تقولون بسبعة أو بعشرة أو بأكثر! قيل لهم: كيف؟ قالوا: أنتم تقولون: الله السميع البصير له الكلام الإرادة القدرة، وتقولون: هذه صفات لله، وهذا شرك أكبر من شركنا؛ لأنكم إذا قلتم: إن صفات الله أزلية مع الله إذاً جعلتم مع الله أكثر من إله، فبسبب هذا النقاش قال المعتزلة: إخلاص التوحيد هو أن ننفي عن الله جميع الصفات؛ لأننا لو أثبتنا لله أي صفة وقلنا إن هذه الصفة أزلية لله فقد أثبتنا مع الله إلهاً آخر، فأدى بهم هذا الفهم القاصر إلى نفي جميع الصفات عن الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال مناهجهم العقلية الباطلة، وضربوا بالكتاب والسنة ونصوصها عرض الحائط، وأعملوا فيها تأويلاً وتحريفاً وتعطيلاً.

وقد وصلوا في الدولة العباسية إلى مناصب كبرى، ومنها وصول أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتزلة وشيخهم وكبيرهم إلى أن كان قاضي القضاة والمقرب من الخليفة، وقد أثر هذا القاضي المعتزلي على الخليفة حتى أقنعه بهذه البدعة، بل وأقنعه بأنها هي الحق الذي لا حق غيره، وأنه ينبغي له أن يلزم الناس بها، وفعلاً تبنت الدولة آراء المعتزلة، وتحولت قضية الاعتزال من خلاف بين أهل السنة وبعض المخالفين إلى أن تعلن الدولة قراراً حاسماً قوياً بأن هذه البدعة هي الحق، بل ويجب على كل إنسان أن يقول رأيه فيها، وأن يقول الرأي الموافق للمعتزلة، فنشأت فتنة القول بخلق القرآن.

إذاً: هي ليست قضية جزئية، وإنما هي مسألة جعلت عنواناً لقضية أكبر في باب الاعتقاد وفي باب المنهج وفي باب الصفات، وفعلاً امتحنت الدولة ومن خلفها من أئمة الاعتزال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مما كان تحت سلطانهم، وكانت تحت سلطانهم كل البلاد الإسلامية في ذلك الوقت الذي اتسعت فيه الفتوحات؛ إذ بلغت إلى حد كبير جداً في نهاية القرن الثاني، واستمر على ذلك مجموعة من الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق، يوصي بعضهم بعضاً، وكانوا ينشرون مسألة القول بخلق القرآن، وأصدروا قرارات: من لم يقل بخلق القرآن يعزل إذا كان قاضياً في بلد أو كان فقيهاً أو كان إماماً! وحاربوا أرزاق الناس.

وهذا الشيء مؤسف جداً، حيث يتحول الاختلاف في الرأي إلى أن يتجه الأقوى إلى حرب الناس في أرزاقهم؛ فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، لكنه منهج الضعفاء، فمنهج الضعفاء أن تحارب الناس في أرزاقهم، وأن تظن أنك إذا قطعت الرزق قد قضيت على صاحبه، ولهذا فإن بعض العلماء اضطر إلى التورية، فكان بعضهم إذا سئل محاكمة: هل تقول بخلق القرآن؟ قال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور هذه مخلوقة، ويقصد يديه.

<<  <  ج: ص:  >  >>