للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفراغ مشكلة الحضارة الجديدة والعولمة الحرة]

الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.

أيها المسلمون: إن حياة الناس بعامة مليئة بالشواغل والصوارف المتضخمة، والتي تفتقر من حيث الممارسات المتنوعة إلى شيء من الفرز والترتيب لقائمة الأولويات، مع عدم إغفال النظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب، ثم إن الضغوط النفسية والاجتماعية الكبيرة الناتجة عن هذا التضخم ربما ولدت شيئاً من النهم واللهث غير المعتاد تجاه البحث عما يبرد غلة هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارها.

إن الحضارة العالمية اليوم قد عنيت بإشعال السلاح، ورفع الصناعة، وعولمة بقاع الأرض، تلكم الحضارة التي حوَّلت الإنسان إلى شبه آلة تعمل معظم النهار -إن هي عملت- ليكون ساهراً أو سادراً أو خامداً ليله، هذه هي الثمرة الحاصلة ليس إلا.

إن تلكم الحضارة برمتها لم تكن كفيلة في إيجاد الإنسان العاقل الإنسان المدرك الإنسان الموقن بقيمة وجوده في هذه الحياة وحكمة خلق الله له، بل إنما فيها من آليات متطورة وتقنيات، كان سبباً بصورة ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياة العامة، مما ولد المناداة في عالم الغرب بما يُسمى علم اجتماع الفراغ، وإن لم يكن هذا الفراغ فراغ وقت على أقل تقدير فهو فراغ نفسٍ، وفراغ قلبٍ، وفراغ روح، وأهدافٍ جادةٍ، ومقاصد خالية من الشوائب.

{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦] ، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:١-٤] .

إن الحضارة العالمية حينما تُوفِّر للإنسان -بالتقدم العلمي والجهد الصناعي قوة الإنسان ونشاطه- مزيداً من الوقت، ثم يكون في نفسه وقلبه وروحه ذلك الفراغ، فهنا تحدث المشكلة، ويكمن الداء، الذي يجعل أوقات الفراغ في المجتمعات تعيش اتساعاً خطيراً، حتى صارت عبأً ثقيلاً على حركتها وأمنها الفكري والذاتي، ومنفذاً لإهدار كثيرٍ من المجهودات والطاقات المثمرة.

إن غياب الضبط والتحليل والترشيد للظاهرة الحضارية الجديدة المنشأة -أوقات الفراغ- ليمثلُ دليلاً بارزاً على وجود شرخٍ في المشروع الحضاري والعولمة الحرة، غير بعيدٍ أن تؤتى الأمة المسلمة من قبله، وإن عدم وعينا التام بخطورة هذا المسلك تجاه أوقات الفراغ، وعدم وعينا التام بالمادة المناسبة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليات التنموية والفكرية، والاقتصادية البناءة، لجدير بأن يقلب صورته إلى معول هدمٍ يُضاف إلى غيره من المعاول -من حيث نشعر أو لا نشعر- التي ما فتئ الأجنبي عنها يبثها ليل نهار؛ لنسخ حضارة المسلمين على كافة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ} رواه البخاري.