للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التحذير من ترك الطاعة بعد رمضان]

الحمد لله الحي القيوم، الدائم الذي لا يزول، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والباطن فليس دونه شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، يُقلِّب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، ويداول الأيام بين الناس {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:١٤٠] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من خاف ربه، وصلى فرضه، وصام شهره، وحجَّ بيته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:٢١٧-٢٢٠] .

عباد الله: إن في كَرِّ الأيام والليالي لعبرة، والأيام تمر مَرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرةٌ، وحسابٌ يأتي على مثقال الذرة، والناس برمتهم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صح بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

وهذا كله -عباد الله- يُعدَّ فرصة عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى؛ لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢] .

لقد ظل المسلمون -جميعاً- شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويرون الله من أنفسهم، متقلبين في ذلك بين دُعاءٍ وصلاة وذكر وصدقة وتلاوة للقرآن؛ ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق خريف عصفت بها الريح على أمرٍ قد قُدِر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.

أيها المسلمون: إنَّ من يُقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العَجَب مِن لُبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور، والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حاله يحكي: أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله -سبحانه- هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزوُّد وترويض على الطاعة، والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر؛ ولا غرو في ذلك عباد الله، فالله -جلَّ وعلا- أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] .