للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفات فاقد التواضع]

عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله} .

فاقد التواضع إنما هو امرء استعبده الكبر الغائل، والعجب الغالب، فهو عنيد صلد، به يخبو قبسه ويكبو فرسه، فاقد التواضع، عقله مفقود؛ لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفة ما يميل إلى الخفة.

فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، شقي لا يتعظ بغيره، غير مستحضرٍ أن موطأه قد وطئته قبله آلاف الأقدام وأن من بعده في الانتظار، ألا وإنه ما رؤي أحدٌ ترك التواضع وترفع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه، ومن استطال على الإخوان فلا يثقن منهم بالصفاء، ومن تكبر فلم يتواضع فقد رمى بثقله في ثلاث خصالٍ مذمومة:

أولها: أنه لا يتكبر على أحدٍ حتى يعجب بنفسه، ويرى لها الفضل على غيرها.

وثانيها: ازدراؤه بالناس من حوله؛ لأن من لم يستحقر الناس لم يتكبر عليهم، وكفى بالمستحقر لمن أكرمه الله بالإيمان طغياناً، وأنى للمستكبر أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!

وثالثها: منازعة الله جل وعلا في صفاته؛ إذ الكبرياء والعظمة له وحده، يقول سبحانه في الحديث القدسي: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما عذبته} رواه مسلم.

ألا فليت شعري ما الذي يحمل الكثيرين على أن يركنوا إلى العجب والأنفة وينأوا بأنفسهم عن التواضع وخفض الجناح، أفيكون السبب في ذلك فطرة يفطر عليها المتكبر فيدعي جبليتها وصعوبة الخلاص منها؟

كلا والله.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد} رواه مسلم.

أم أن ذلك نقيصة يجدها المرء في نفسه ثلمة يسد ثلمتها بعجبٍ وفخرٍ يحتال بهما على نفسه؟ ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقة الشرف والرفعة وأنها في التواضع لا في الفرار منه بحجة سد النقيصة أو قضاء الوطر.

يقول الصديق رضي الله عنه: [[وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع]] .

ثم ألم يكن الأمر لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمل المرء على ذلك؟

هل هو الحسد والتشفي وحب الذات؟ أم هو سورة كسورة الخمرة تأخذ شاربها كلما أخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاود حتى يصير مدمناً فيستوي عنده حال الخمار والإفاقة، وأين كان ذلك فإن النأي عن التواضع سمة مرذولة، وخصلة مستهجنة، ووسم تعلق به نار الحدادين؛ لأن عين المعجب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل حتى يكون أسرع ما يتسرب الإيمان من امرئ هذه حاله كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم.