للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ختام رمضان وحال الناس فيه]

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا إلى عباده بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وضيق، نحمده على سوابغ نعمه وواسع كرمه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أولاًَ وآخراً، وظاهراً وباطناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى، فما أنتم في هذه الدنيا إلا غرض تنتظرون فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يحيا لكم أثر إلا مات لكم أثر، ولا يتجدد لكم جديد إلا بعد أن يبلى لكم جديد، وقد مضت أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله!

أيها الناس: إن شهركم هذا قد بدا إدباره، وآذن بوداع، وإن ما بقي منه فسيمر مثل طرفة عين أو كلمح بصر أو هو أقرب، وهو عند ذوي العقول: كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قَلَص، وزائداًَ حتى نَقَص، ولا جرم -عباد الله- فإن الشيء يُتَرَقب زواله إذا قيل تَمَّ قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:٣٩] .

ألا فإن ما بقي من الشهر اليوم هو المضمار، وغداً السباق، والسَّبَقَة الجنة والهرب من النار، أفلا تائبٌ من خطيئته قبل ختام شهره؟! ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه؟! ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل.

فيا ويح طالب الجنة إذا نام! ويا بؤس الهارب من النار إذا غفا ثم هو لا يتخوف قارعة حتى تحل به!

ومن هذه حاله فليس هو من عُمَّار الشهر في مراحٍ ولا مغدى.

عباد الله: إن في هذا الشهر أناساً أشغلوا أنفسهم عن ذكر الله وطاعته، حتى قَصَروا غاية بِرِّهم به في جعله موسماً حولياً للموائد الزاخرة، وفرصة سانحة لِلَّهو والسمر الممتدَّين إلى بزوغ النهار، فصبحهم مثل ليلهم، وأجواؤهم سود، وأجفانهم جمر يومض، جعلوا من هذا الشهر محلاً للألغاز الرتيبة والدعايات المضللة، أو المواعيد المضروبة، لارتقاب ما يستجد من أفلام هابطة، وروائيات مشبوهة، ترمي بشرر كالقصر؛ لإحراق ما بقي من أصل حشمة وعفاف، أو تديُّن يستحق التشجيع والإذكاء؛ وبذلك تخسر الأمة في كل لحظة مواطناً صالحاًَ يضل ضلالة، يغش بها ويخدع، ويسرق ويحتال، تمتعاً بهذا الترف المرئي والداء المستشري، ولسان حال هؤلاء يقول: صفِّدت شياطين رمضان إلا شياطينهم، حتى صاروا بذلك يطلبون ولا يُعطون، ويستحون ولا يصبرون، ويحسنون الجمع في حين أنهم لا يعرفون القسمة، إلى أن تحطمت فيهم روح المغالبة والمقاومة، فلا عجب حينئذٍ إذا لم يجد هؤلاء بهذا الشهر المبارك ما يجده المؤمنون الصادقون.

وفي المقابل -عباد الله- فإن لهذا الشهر أناساً غضَّ أبصارَهم ذكرُ المرجع، وأراقَ دموعَهم خوفُ المحشر، فهم بين شريد هارب من الكسل والخذلان، وخائف مقهور، وداعٍ مخلص، وثكلان مُوْجَع.