للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية وحدة الأمة وأسس روابطها]

أيها المسلمون! لطالما تحدث المتحدثون، وهتف الهاتفون من أمة الإسلام بأنه يجب أن تكون هناك وحدة قوية راسخة الأسس شامخة المعالم تطال أمة الإسلام طراً، حتى تكون بعد ذلك صخراً صلباً تتحطم أمامه أمواج الضعف وتتخاذل، وهذه الدعوة في حقيقتها ليست مستحيلة ولا ضرباً من التخييل أو نزوة من أحلام اليقظة، كلا.

عباد الله! فلو كان الأمر كذلك لما حض الباري جل شأنه عباده المؤمنين على أن يكونوا إخوة في الله، متناصرين متعاونين، تجمعهم كلمة واحدة ورابطة واحدة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:٧١] ولما حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتلاحم المسلمون ويكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، غير أن السؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو كيف نبني هذه الوحدة؟

وعلى أي أساس يجب أن تنهض ليشتد عودها ويستقيم ظلها، أتقام هذه الوحدة على أساس من اللغة؟

لا؛ فاللغة وحدها غير كافية إذ قد يكتنفها مسلمٌ وكافر، فضلاً عن أنه لم يكن اللسان يوماً ما هو سبيل الاتحاد والوحدة، فكم هم الذين يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا وهم في الحقيقة شياطين في جثمان أنس، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عند مسلم في صحيحه.

أفتقام إذاً هذه الوحدة على أساس من الجنس؟

كلا؛ فالجنس وحده ليس معياراً يعتمد عليه أو يجعل تكئة للإتلاف العميق، فالإسلام لا يقيم للجنس في تقديره وزناً، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وإن كان لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فإنه لا يعدو كونه الطين والماء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] .

إذاً على ماذا تقام هذه الوحدة وبأي شيء تكمل؟

إنها لا تقوم حقيقة إلا على أساس يجمع الأرواح قبل أن يجمع الأشباح، ويقنع العقول إثر سيطرته على القلوب، ويؤلف بين الرغبات والأهواء كما يؤلف بين النبات والماء، هذا الأساس بكله هو عقيدة الإيمان المستقرة في الخواطر والصدور، وملة الإسلام التي تظل أبناءها جميعاً ليتفيئوا ظلالها بلواء العلي الغفار: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:١٣٨] .

إنه يجب علينا جميعاً أن نؤمن بأن الدعوة للوحدة ليست عصبية أو جنسية أو إقليمية أو تأليباً على الشر أو اعتزاماً للبطش والعدوان، بل هي الوحدة المؤمنة العادلة التي يلزمها أن تقوم للناس بالحق والقسط، والدين الإسلامي هو أقوى وترٍ حساسٍ في نفوس المؤمنين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتباين أقطارهم وبلدانهم، ولن تجتمع كلمتهم يوماً ما دون أن تؤسلم قضاياهم وتحدد معاييرها من خلال الإطار الإسلامي الخالد والإسلام بحقيقته ليس إلا.

والإسلام في حقيقة أمره إنما انطلق في وحدته من خلال توحيد الخالق سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:٢] ووحدة الرسول صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:٢٩] ووحدة الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] ووحدة الكتاب: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩] ووحدة القبلة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:١٤٤] ووحدة الأمة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:٥٢] هذه هي معايير الوحدة الحقة، وأي وحدة سواها فهي كالظئر المستأجرة أو النائحة المزورة.