للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العقلانية الحديثة عقبة في طريق الإسلام]

عباد الله! إنما قلنا ما قلناه في هذه العجالة كمدخلٍ وتوطئةٍ نشير بهما إلى أن جملة من عقول هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها من تسلل ظلمات بعضها فوق بعض، أو أن تدب إلى عقولهم شبهات ومكابرات، لا يجد الوالغ في حمأتها بصيص نورٍ يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلالة، أو ينجو به من غواية، وذلك من خلال حلول شيء من الازدواجية الممقوتة غير يسير، عبر وسائل التلقي المختلفة، والتي يتعارك فيها الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والعقل والشرع، والزين والشين، يبرز الحق فيها مرة والباطل مرات، جندت لمثله أقلام بعض الورقيين من ممتهني الصحافة أو الكتابة، عبر الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وهي خير شاهدٍ على هذا، حيث لم تسخر جملة منها للذب عن الإسلام شريعة وروحاً واعتقاداً، بل حبرت بعض الأقلام لتقرير نزعة جديدة يخلع من خلالها الجلباب الساتر لكاتبها عن إبراز هذا المقصد، فراحوا يخوضون فيما يسمى تمجيد العقل وإكباره، وجعله حكماً قهرياً على عدد ليس بالقليل من النصوص الشرعية الإسلامية.

فعرضوا الحاكمية في الشريعة على العقل، وعرضوا الحدود والجنايات على العقل، وعرضوا الولاء والبراء في الإسلام على العقل، وعرضوا بعض المسلمات في قضايا المرأة المسلمة وشئونها على العقل، حتى صار ذلك لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، وشمالةً نعوذ بالله من غوائلها، بل هي معرة برمتها، لاتتها أفواه المعارضين بعقلانيتهم، حتى لفظتها أسماع أهل الشريعة، ومثل هذا عباد الله ليس ببعيد على من أطلق العنان لعقله يصول به ويجول في شرع الله بلا خطام ولا زمام.

ولا غرو في ذلك، فقد قال ابن القيم رحمه الله: وكل من له مسكت من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله ووحيه الذي هدي به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فسادٍ أعظم من فساد هذا العقل.

فيا للعجب! أيها الناس! كيف يكون الحق قريباً وليس إليه وصول، وكيف يكون أمثال هؤلاء:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

وإذا كان يسعى إلى الماء من يغص بلقمةٍ واحدة فإلى أي شيء سيسعى من يغص بالماء ذاته، إن سنن الله جل وعلا وشريعته لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالعقل، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم واحد إلا انتقلوا من دينٍ إلى دين، ولعمر الله إن بعض السنن لتأتي أحياناً على خلاف الرأي ومجانبته خلافاً بعيداً فما يجد المسلمون بداً من اتباعها والانقياد لها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [[لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفه]] .