للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أبو بكر وعمر وخلق الرحمة]

والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبان عيشهم، فهاهو الصديق أبو الصديقة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:٤٠] الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم منذ نعومة أظفاره، وما سمي العتيق إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم وإنقاذاً لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق.

كان رضي الله عنه يتعهد امرأة عمياء في المدينة يقضي لها حاجاتها سراً إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: [[بلى لأحلبنها لكم، وإني أرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه]] ، ولقد تجلت الرحمة في أعلى صورها في الخليفة الفاروق رضي الله عنه الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان انقلبت نفسه ظهراً على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس غليظ القلب، فلما ولي الخلافة خطب الناس قائلاً لهم: [[اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد؛ فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف]] فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.

فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعموا أن المرء المسلم مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولاً في أهله، وثانياً في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عوناً لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته، واعملوا بمثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط} رواه أبو داود، وحذار من الوقوع فيما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا} رواه أبو داود.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.