للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغضب وآثاره على الأسر والمجتمعات]

وإن في الناس الطائش الأهوج، كما أن فيهم الغر المأفون الذي تسخفه التوافه فيستحمق على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يلزم نفسه ولا يتريث، بل يهذي بكلامه ويوكس ويشطف في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار، وتلفيق، فيقع فيما نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تتكلم بكلام تعتذر منه غداً} رواه أحمد وابن ماجة.

إذ لا ينفعه الاعتذار حينئذٍ؛ لأنه إذا استثير ورأى لهب الغيظ برطم، وأفسد الأمور في غيبة وعيه، وغلبة عاطفته، فلم يدع لإصلاحها مكاناً، فإن نصح أهماك هوجاً، وإن ذكر أصماك غيظاً، وهذه هي علة الحمق الكامنة، ولقد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون، عندما تقتحم عليهم نفوسهم، ويرون أنهم حقروا تحقيراً لا يعالجه إلا سفك الدم، ولو كان المسلم يعيش من وراء أسوار عالية من فضائل أَتراهُ يُحس بوخز الألم على هذا النوح الشديد؟!

لا.

وكلا! بل إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، ولا غرو! إذ لا تعود الجمرة إلا على موقدها الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المستبان ما قالا، فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم} رواه مسلم.

فلا ينبغي للمؤمن الكبير أن يضيق بهرف قطعان متناثرة، بل إن المصلح العظيم يفيض من أناته على ذوي النزق حتى يلجئهم إلى الخير إلجاء، فيطلق ألسنتهم تلهج بالثناء والذكر الحسن.

إن من الناس من لا يسكت على الغضب، فهو شخص غضوب في ثورة دائمة، وتغيِّض يطبع على وجهه العبوس، إذا مسه أحدٌ بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويزبد ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقى، فقد يسب الباب إذا استعصى عليه فتحه، وقد يلعن دابة جمحت به، أو يعري امرأته ويكسر ضلعها ويضيع أمرها، فيفرق شمله في نقصان ملح أو يبوسة خبز، ثم يطلقها عدد نجوم السماء وكان يكفيه من ذلك عطارد!! فيتهارشان تهارش الكلبين، ويتناقران تناقر الديكين، فلا يفترقان إلا عند الخدش والعقر والهجر، فيجني كل منهما على نفسه بالحرمان والعقوبة، والنتيجة الحاصلة هي يُتم الأولاد إبان حياة الأبوين.

والإسلام بريء كل البراءة من هذه الخلال الكدرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، والفاحش، ولا البذيء} رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

ثم لا تسألوا بعد ذلك -أيها المسلمون- عن ندم الزوجين -ولات ساعة مندم- فيختلقون المعاذير، ويراجعون القضاة والمفتين، كل ذلك لمحو غلطة ارتكبها الغاضب دون تفكير أو روية، أو تدرج في التأديب، مما تسبب في هدم لبنة كان بإمكانه معالجتها لو ملك عقله، وأشهر حلمه، وكفَّ غضبه، وما ذنب الولد إذا خرج من بيته هلعاً مكفهراً وجهه، ضائقاً صدره، ينطلق يمنة ويسرة، يبحث عن سبب يُزيل به همه ويجلو غمه، ولربما استبشر به وبأمثاله وحوش الظلام، وذئاب المجتمع، فيسير وراء تخبطهم ويضيع بضياعهم عن طريق الكيوف القتَّالة من المسكرات والمخدرات.

كلُّ ذلك نتيجة غضبة من أبيه أو أمه أعقبها سبٌ وشتم ولطم، وربما طرد ولعن، فيتبدد بذلك شمل الأسرة، وتقوض المجتمعات، فيكسب في كل يوم عدو، ويفقد صديق، ويُهدم بيت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.