للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبادة الأوثان في عصرنا حاصلة]

وبعد -أيها المسلمون- فلقائل أن يقول مستفهماً: هل يعقل في أزمنة الحضارة المادية، والثقافات العولمية، ودائرة الأقلام السيالة، أن تتسرب لوثة عبادة الأصنام وتعظيمها إلى مجتمعاتها المعاصرة؟!

ف

الجواب

نعم.

ولا عجب من ذلك إذا تنسخ العلم، وضعف الدين في النفوس، ولا أدل على ذلك من وجود معبوداتٍ في هذا العصر منها ما هو على هيئة نصب، ومنها ما هو على هيئة حيوانٍ أعجم، وليس ذلك بخافٍ على كل ذي لبٍ ونظر، ثم إن الجاهليين الأولين كانت لهم عقول مثل عقولنا، وأجسادٌ كأجسادنا، ولهم لسانٌ فصيحٌ وسياداتٌ بين العرب، وجميعهم يقرون أن الخالق والرازق والمدبر هو الله وحده، ومع ذلك عبدوا الأصنام وعظموها، وإلا لما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ولتأكيد هذا القول -عباد الله- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاف من دبيب هذه اللوثة على أمته، بل لقد بين أن هذه اللوثة ستطيح ببعض الناس في آخر الزمان، فقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان} .

وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة} وذو الخلصة؛ صنم معروف كسره جرير بن عبد الله البجلي لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فدل على أن الأمر سيعود لمثل ما كان.

إذاً: هي الأيام يداولها الله بين الناس، فَمِنْ موحدٍ فيها ومِنْ مشرك، ومِنْ خائفٍ من مكر الله فيها ومِنْ آمن: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] وإلا فما سِّر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسس دولة التوحيد، ومحا الشرك في عصره، حيث يقول وهو يعالج سكرات الموت في مرضه الذي لم يقم منه: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} ثم خشي من تسلل هذا الداء بعد وفاته فقال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} رواه مالك.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم أن إبراهيم التيمي قال في قوله تعالى عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥] قال: [[ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام]] .

فلا يأمن الوقوع في لوثة الأصنام والتماثيل إلا من هو جاهلٌ بها وبما يُخلِّص منها من العلم بالله وبما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والنهي عن الشرك به.

يقول ابن القيم رحمه الله عن دور الشيطان في هذا الميدان: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور بالبناء والعكوف عليها، ثم ينقلهم منه إلى دعائهم وعبادتهم، واتخاذهم أوثاناً تعلق عليهم القناديل والستور، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فيغضب المشركون، وتشمئز قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:٤٥] وسرى ذلك في نفوس كثيرٍ من الجهال والطغام، وكثيرٍ ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم.

ثم لتعلموا -عباد الله- أن الصنم قد يطلق على الوثن كما قرر ذلك بعض أهل العلم، والوثن: هو كل ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:٣٠] .

وقد قصرت مفاهيم بعض الناس معنى عبادة غير الله على مجرد عبادة الحجر أو الصنم؛ وهذا من فرط جهلهم بحقيقة هذه المسألة، إذ ليس بلازمٍ أن يكون الشرك بالله محصوراً عند الصنم والركوع والسجود له، بل لقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفهم القاصر، وذلك: حينما سمع عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] قال عدي: {إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى.

قال: فتلك عبادتهم} رواه أحمد والترمذي وحسنه.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم إنك كنت غفاراً.