للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دفع العين بين المشروع والممنوع]

أيها المسلمون! إن أمر العين غير خافٍ على كل ذي لبٍ متجرد، وهذه حالٌ غير مستنكرة البتة، وإنما المستنكر -عباد الله- أن يكون المتفاعل معها كالمستسمن غير سمن، وكالمستبعد غير غرب، إذ ظن بعض السُّذَّج أن ليس للعين سبيل إليهم بمجرد أن يعلق تميمة أو ودعة، أو ناباً، أو تعاويذ ورقى ملفقة ينسجها لهم أدعياء الكهانة والشعوذة، يخدعون بها الرعاع، أو يدعون أن لهم خصوصية في نفع رقاهم وتعاويذهم؛ لأخذهم العهود على شيوخٍ أو أصحاب طرقٍ أو نحو ذلك مما لا أصل له في الدين، بل هو بدعة وضلالٌ مبين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرقى والتمائم والتولة شرك} رواه أحمد وأبو داود.

والتمائم: شيء يُعلَّق على الأولاد عن العين، وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من تعلَّق شيئاً وُكِلَ إليه} رواه أحمد والترمذي، والتعلق يكون تارة بالقلب؛ كالاعتقاد في قراءة الشيخ الفلاني، أو التعلق بها من دون الله، أو أنها شافية أو نحو ذلك.

ويكون تارة بالفعل؛ كمن يُعلِّق تميمة أو خيطاً أو نحوهما لدفع العين أو دفع الضر.

ويكون تارة بهما جميعاً -أي: بالقلب والفعل- فمن تعلَّق بالله وأنزل حوائجه به، والتجئ إليه، وفوَّض أمره إلى ربه كفاه وهداه، وقرَّب إليه كل بعيد، ويسَّر له كل عسير.

ومن توكل بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله وتميمته ودوائه، وكله الله إلى ضيعة، فما ظنكم -عباد الله- بمن تعلَّق بغير الله، بل ما ظنكم بمن وكله الله إلى نفسه أو إلى غيره من المخلوقين، أترونه ناجياً أم هالكاً {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:٢٢] .

والله -سبحانه وتعالى- هو الذي تعلق عليه الآمال {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] ، {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:١٢] .

إن العجب كل العجب! في أولئك المصابين بالعين حين يستبدلون الرقى والعزائم الشركية، بالرقى والعزائم الشرعية، جاهلين أو متجاهلين خطورة هذا المسلك والهوة السحيقة التي تقذفهم إليها تبعاته، قال القرافي في فروقه عن ألفاظ الرقى: وهذه الألفاظ منها ما هو مشروعٌ؛ كالفاتحة والمعوذتين، ومنها ما هو غير مشروع؛ كرُقى الجاهلية والهند وغيرهم وربما كان كفراً، ولذلك نهى مالك وغيره عن الرقى العجمية لاحتمال أن يكون فيه محرم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نهى علماء الإسلام عن الرقى التي لا يفهم معناها؛ لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: {كُنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك، قال: اعرضوا عليَّ رقاكم -ولا بأس في الرقى- ما لم يكن فيه شرك} رواه مسلم.

فكل اسم مجهول لا يجوز لأحدٍ أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به، وأما جعل الألفاظ الأعجمية، أو الحروف المقطعة شعاراً للرقى فليس من دين الإسلام، كقول أرباب الدجل في رقاهم وتعاويلهم (كركدن ده ده شراهيا جلَّ جلود) وأمثالها مما هو دجلٌ فوق دجل، وخرافة فوق خرافة مما ليس من دين الإسلام في شيء، بيد أن كثيراً من الناس في هذا العصر قد كبا كبوة مثيرة، وزل زلة خطيرة، فجمهورهم قد أصابهم لوثات هذه العلل مذ أسلموا عقولهم لأيادي الهدي التي لبَّست قفاز التدين، واستطاعت من وراء هذا القفاز أن تصافح كثيراً من ضعاف النفوس؛ بسبب تخلفهم وإبان غفلة من علمائهم وأولي الأمر منهم.

فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء، فزادوهم مرضاً إلى مرضهم، واقتلعوا أطناب حياتهم الهانئة، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم، وما خذل أمثال هؤلاء إلا حينما لجئوا إلى ذئاب الظلام، وركنوا إلى هرائهم وأهازيجهم، ناسين شرعة الله وصبغته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:٥٠] .