للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفة الحج في الجاهلية]

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، له الحمد في الأُولى والآخرة، يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار، وهو يتولى الصالحين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة بها نحيا وبها نموت وعليها نُبعث يوم الدين.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الناصح الأمين، وقائد الغر المحجلين، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فوصيتي لنفسي ولكم -عباد الله- هي تقوى الله سبحانه، في السر والعلن، والحضر والسفر، والفرح والحزن، في خلواتكم وجلواتكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:٤] .

أيها الناس! لقد اُبتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان برجس الأصنام والوثنية، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، يتخرج منها رجال ونساء في الشرك والتضليل، والجهالة والعِبِّيَّة الجاهلية، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتَّى أنحاء البلاد.

وكان يُقام فيها السوق في شهر ذي القعدة نحواً من نصف شهر.

ثم يأتون بعد ذلك موضعاً دونه إلى مكة، يقال له: سوق مجنة، فيُقام فيه السوق إلى آخر الشهر.

ثم يأتون موضعاً قريباً منه، يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية.

ثم بعد ذلك يَصْدُرون منه إلى منى.

كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب، ووفود ملوكهم بالهدايا والقرابين إلى الأصنام، يتناشدون الأشعار، ويفتخرون بالسلب والنهب، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريرة، ويمارسون وأد البنات إبَّان حياتهن، ويعدون ذلك من المكرمات التي تهون دونها الحُرُمات.

عباد الله! لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج مواقف مخزية، إنما هي خليط ممزوج من الأضداد والمتناقضات، يظهر ذلك جلياً في بعض المواقف المتكررة، فمن ذلك -مثلاً-: تلبيتهم في الحج التي يخلطون معها الشرك، فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما مَلَك {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:٥] .

وكانت قبيلة عَكٍ إذا خرجت حاجَّة قدمت أمامها غُلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم، فيقولان: نحن غرابا عَكٍّ، فتقول عَكٍّ من بعدهما:

عَكٌّ إليك عانية

عبادة يمانية

كيما نحجَّ الثانية

هذه هي تلبيتهم.

ولقد كانت قريش ومَن دان بدينها، يقفون بـ المزدلفة، وسائر العرب يقفون بـ عرفات، حتى أنزل الله على رسوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩] .

ومن مظاهر الجاهلية في الحج عباد الله! ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: [[كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فِعال آبائهم، فأنزل الله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:٢٠٠]] ] .