للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وظائف القلم]

القلم -أيها المسلمون- هو خطيب الناس، وفصيحهم، وواعظهم، وطبيبهم، بالأقلام تُدبَّر الأقاليم، وتساس الممالك، القلم نظام الأفهام يخطها خطاً فتعود أنظر من الوجه المرقوم، وكما أن اللسان بريد القلب؛ فإن القلم بريد اللسان الصامت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فقلمك -يا أُخَيَّ- لا تذكر به عورة امرئ إذْ كلك عورات وللناس أقلام.

الكتابة بالقلم للمرء شرفٌ ورفعةٌ، وبضاعةٌ رابحةٌ، وأثرٌ غالٍ، ومأثرٌ علِيٌّ، هي للمتعلم بمنزلة السلطان، وإنسان عينه بل عين إنسانه، كيف لا! وأعظم شاهد لجليل قدرها، وأقوى دليل على رفعة شأنها؛ أن الله -سبحانه- نسب تعليمها إلى نفسه، واعتدَّها من وافر كرمه وجزيل أفضاله! بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:١-٤] .

بالإضافة إلى ما يؤكد أن هذه الآية مفتَتَحُ الوحي، وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلِّها ما لا خفاء فيه، بل هي ما وصف الله به حفظته بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:١٠-١١] يقول ابن القيم رحمه الله: "التعليم بالقلم من أعظم نِعَمِهِ على عباده، إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف، وكان يعظُم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم لِمَا يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم إلى أن قال رحمه الله: فمن ذا الذي أنطق لسانك، وحرَّك بنانك؟ ومن الذي دعَّم البنان بالكف، ودعَّم الكف، بالساعد؟ فكم من الله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم".

انتهى كلامه رحمه الله.

أيها الناس! دعا إلى القلم والخط به نبيٌّ أميٌّ، لم تكن أُميته يوماً ما قدحاً في رسالته أو مسلباً في نبوته! كلا.

بل هي مدح ومنقبة؛ لأن من ورائها حكمةٌ بالغة، هي رد وحجة على الملحدين المعاندين، حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر الله بقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:٥] وأكد ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨] فكان ذلك من أقوى الحجج على تكذيبهم، وحسم أسباب الشك في نبوته صلى الله عليه وسلم.