للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الهم]

وسببٌ ثالث من أسباب القلق يقال له: الهم.

نعم عباد الله الهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني: الحزن، والشدة، والإذابة، الهم الذي يُحطِّم العمالقة، ويذبل الوجوه الطافحة بالحياة النظرة، الهم الذي يخترم الجسيم نحافة، ويشيب ناصية الصبي ويهرم.

إن سوء الإحسان في مواجهة الفتن والبلايا والرزايا، بحيث يتغلب الضجر على الصبر، ويفقد العقل توازنه واعتداله، لهو منبت الهم ونقعه، وإن الكثيرين في الواقع يتبرمون بالزوابع التي تحيط بهم، مع أن المتاعب والآلام تربة خصبة تنبت على جوانبها بذور الرجولة، وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركامٍ من المشقات والجهود المضنية، ولم يكتفوا بإصرارٍ مؤقت يخدع المرء به نفسه، فيقول: أنا راضٍ، ونفسه طافحةً بالضيق والتقزز، فينشأ له من طبعه الجزوع ما يبغض إليه الصبر، ويجعله في حلقه مُرَّ المذاق، فيتنجنج ويضيق، ويحاول جاهداً أن يخرج من حالته على نكظ.

إذ أن عُشَّاق الصخب، ومدمني الشكوى، هم أفشل الناس في إشراب حياتهم معنى الطمأنينة، حيث يطوفون حولها معولين منتحين، ولم يدعوا ألسنتهم وقلوبهم تلعق ما في واقعهم المر من غضاضة.

اشتكى عروة بن الزبير الآكلة في رجله فقطعوها من ركبته وهو صامتٌ لم يئن، وفي ليلته تلك سقط ولدٌ له من سطحٍ فمات، فقال عروة: [[اللهم لك الحمد كانوا سبعة من الولد فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت]] .

لو رجع المرء لنفسه قليلاً لاتهم مشاعره الثائرة حيال ما ينزل به، فمن يدري رُبَّ ضارة نافعة، أو ربما صحت الأجسام بالعلل، أو لرب محنةٍ في طيها منحة، وكم بسمة كانت وليدة غصة، وكل إنسانٍ يصيبه من الكروب ما يهون معه ما سلف من الخطوب، وكم من زمنٍ بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه، ولم يبكِ الباكون في مفقودٍ مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر مُصيبة لا يسلو بها فليذكر مصاب الأمة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فما فقد الماضون مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا مثله حتى القيامة يفقد:

وهل عدلت يوماً رزية هالكٍ رزية يومٍ مات فيها محمد

ألا إن مكاره الدنيا ضربان: ضربٌ فيه حيلة؛ فالاضطراب داؤه، وضربٌ لا حيلة فيه فالاصطبار شفاؤه، والحكمة البليغة تقول:

الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر.

وعواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوبٍ في مكروه، ومكروه في محبوب، وكم مغبوطٍ بنعمة هي داؤه، ومرحومٍ من داءٍ فيه شفاؤه، ورب خيرٍ من شر، ونفعٍ من ضر: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:١٩] .

مرَّ إبراهيم بن أدهم على رجلٍ قلقٍ مهموم، فقال له: إني سائلك عن ثلاثة فأجبني، قال: أيجري في هذا الكون شيءٌ لا يُريده الله؟ أو ينقص من رزقك شيءٌ قدره الله؟ أو ينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟ فقال الرجل: لا.

قال إبراهيم: فعلام القلق والهم إذاً؟!

الهم -أيها المسلمون- جندٌ من جنود الله، يُسلطه على من يشاء من عباده بعدله وحكمته سبحانه: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:٤] .

سُئِلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[من أشد جند الله؟ قال علي: الجبال، والجبال يقطعها الحديد فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يُطفئ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب فالسحاب أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم فأقوى جند الله هو الهم يُسلطه على من يشاء من عباده]] .

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يومٍ فإذا هو برجلٍ من الأنصار يُقال له أبو أمامة، فقال: {مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديونٌ يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همَّك وقضى عنك دينك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} رواه أبو داود في سننه.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.